مثال سليمان

أما بعد،
سيذهب المحاربون إلى القتال، سيسحق الثوار دون رحمة،
سيدفن الضحايا تحت الركام.. لن يعودوا، ولن يبرروا لأنفسهم لمَ لمْ يعودوا..!
لكن كل يومٍ ستقرأ عنهم، كل يومٍ ستعلن الحداد عليهم،
ويوماً واحداً ستنتقم لهم. قد ماتوا جميعاً لأجلك أيها الإنسان، للدفاع عنك، بسبب
أنانيتك..
ويلٌ لك إذاً ألّا تدمع عيناك بسخاءٍ على أحزان هذا
الوطن..! إن لم ترتجف ويد الموت تمتد إليك حين تنتهي صلاحية السياسيين، وتبكي
بحرقة على أولئك المناضلين الذين خانهم القدر.
لنبكي عليهم على بلادنا بكبرياءٍ أكثر من أي وقتٍ مضى..
لنبكي المعاهدات والجنازات كيف ترعب قرانا الصغيرة المدمرة، لنبكي جشع القادة، ومن
سيعرف غيرنا عدد المرات التي بكينا فيها على السنابل والقلاع والمكتبات المهجورة،
ستبكي السماء ستتكلم أشجار الزيتون سنسمعُ صرخات النساء كيف تذبح في جنازاتٍ وصماء.
والذكريات السيئة ستبقى حاضرة معنا والنداء الذي أقصم قلب
الحقيقة “الله أكبر” أعلنوا به
كفرنا ولم يكن خادعاً، قد كان مرعباً لحد القداسة.. “الله أكبر” كررها
الذباح والقناص والسفاح كما نحن المغضوب عليهم والضالين..
أي غضبٍ..؟اي حجةٍ مجنونة روضوا بها قلب الرصاصة؟
لا
أدري..! لأن كل الأصوات خمدت حين سقط الضمير ميتاً بعد الإنتهاء من صلاته وصرخ
“آمين”.
لا أدري…! يالله، إنهم يحطمون صورتك، ما عاد وجهك يتوج
بالخلود وأنت تعلن الحداد بصمتٍ وتصبر على آلامك.
وتلك البلاد، في عيون الغائبين لا تزال محجبة في عفتها، لا تزال تفتخر بنسلها
وعلاماتها التي لا تزول.. ما زالوا يفخرون بها معبداً يبيد كل الألقاب الى المجد،
ما زالوا يعتقدون أنّ الشمس تشرق بألوان العقيق على أربع عشرة أذرعٍ تبحر في مهب
الريح.
لكنها النيران تتعرج برشاقة من كل الجهات، تتغير
الأحلام وتتماشى في انسجامٍ مع إبرة البوصلة للشرق العظيم.
وشبل الأسدِ، في مهدٍ غامضٍ يلعبُ بالطين، كطفلٍ أحبّ
الدفة؛ يخاطر بكل البحارة دون أن يسأل أحدٌ عن أمرهم.
كان الطفل المعجزة يمشي بمفرده في الأمام ويتبعه السرب في
سرور.
عرفناه، ما كان سيد قلبه.. ولادته لغزٌ، وها نحن
على مدى إثني عشر شتاءً نسجد لله
والخبزِ، وهو ما زال يردد “الشعب يحتاج إلى مطرقة”
غزوٌ، دموعٌ، صراخٌ وآلام.. حفلٌ حالكٌ يزدان به التاريخ.
كاللهب يطير نحو حتفه، ستعصف به ريح عند مفترق الطرق بين الفرس والترك والعجم.
هل سيندم أم سيبقى يؤمن بنفسه… ؟ من يهابه ومن يهتف
باسمه… ؟ عصفٌ يحوم به، عصف نصف مليون نجمةٍ ستهب حول حلمه المغمس بالدم.
ستهتف الحناجر” حرية وبس” ستزهق فلول الورد تحت
جنازير الدبابات.
سنقرأ عن الأمهات الجاثمات على القبور..
سنقرأ عن أطفالٍ حملن رسائل إلى الله، كلما همّ كاتبٌ
وشعر باليقظة من هذا اللهب الذي أُضرم في جسدِ الإنسانية.. كلّما عرض لنا قصةً دون
أن ينزلق القلم من بين أصابعه.. وكتب عن المروضين بالتعب، والحشود المجهولة تجرّ
بعضها ولا تتوقف عن الموت.
للمرة الأولى سينظرون إلى وجه القارئ دون خوف وهم يُقادون
لمثواهم الأخير بينما يحتفون بالنصر أمواتا.