– هل تعرف مدينتنا يا سيدي؟
لطم السؤال وجهي كصفعة مفاجئة.. فتجمدت في مكاني، وعلى الرغم من صيحات بائعي الدخان واليانصيب والمواد المهربة.. واكتظاظ الرصيف بالأجساد الضئيلة والضخمة، ويقيني بأن السائل لا يعنيني أنا بسؤاله، إلا أن هذا السؤال الغريب، وفي هذا المكان العام، أثار فضولي، فأخذت –كامرأة بدوية أدهشتها المدينة- أتلفت هنا وهناك باحثاً عن السائل، فسمعت صوته مرة أخرى يقول:
ستقول لي: إنها بلدة الخضرة والخيرات وما شابه ذلك.. لا يا سيدي، إذا كنت تود معرفتها حقاً فلابد أن تعرف بأنها بلدة فلمز وسميري وعبلة وشوشي وصطيفو ونوافو.. وتعالت ضحكات وقحة وخجولة، خشنة ورقيقة من أفواه تحملها رؤوس راحت تتدانى، وهوت القهقهات والنظرات المتسائلة على رجل بلدي الزي والوجه واللهجة وقف قبالة سائح أجنبي بتحد مثير للسخرية، ومن الرؤوس المتدانية ذاتها تساءلت العيون الواسعة والضيقة، السوداء والزرقاء والخضراء (ماالذي يجعل رجلاً كهذا يسرد أسماء مجانين مدينتنا لهذا الغريب بالذات..؟!)
وتدحرجت جمرة الفضول في دمي، ودفعتني بيدين خشنتين صوب الرجلين.. وتابع البلدي، والغريب يحملق فيه بعدم فهم:
– أغلب الظن أنك لاتعرفهم، وهذا يعني أنك لاتعرف مدينتنا أبداً يا سيدي..!!
وبضيق غمغم السائح وهو يجيل ببصره كمن يبحث عن منقذ، ولكن أحدنا، وكالعادة، لم يحرك ساكناً، فهز الرجل البلدي رأسه بارتياح وقال:
-ألم أقل لك؟ إذن فأنت لاتعرفها حقاً ياسيدي.
ثم أردف بعد أن مسح وجوهنا بنظرات متأملة وسريعة :
-المجانين عندنا كثر ياسيدي، أما لماذا هم كثر؟ ولماذا جنّوا، وكيف جنوا؟ فهذا أمر يطول شرحه وتفصيله، ولكنهم في ازدياد مستمر يا سيدي، وأنا أرى ،الله يستر، بأن العالم سيسمع قريباً عن مدينة مجنونة، أعني بها مدينتنا هذه. قل الله يستر واسمعني ياسيدي.
ولم يردد السائح الأجنبي –الله يستر- كما طلب منه صاحبنا، ولم ينبس ببنت شفة، بل اكتفى بالصمت، ونظرات الدهشة تترقرق في عينيه، وقد أحال القلق وجهه وردة سوداء، ومن خلال قهقهاتنا، نحن الذين أحطنا بهم كالسوار، صغاراً وكباراً، ردد بعضنا: (الله يستر.. الله يستر..!)
ولما لاحظ صاحبنا حيرة السائح وتبرمه وهو يجد نفسه كالطائر الحبيس بيننا، سأله بتباهٍ:
-ألا تصدقني ياسيدي؟! أتظنني أخرف كواحد من هؤلاء؟ لا ياسيدي، أنا لست مثل أحد، أنا استثناء في هذه المدينة، أنا رجل فهمان، مثقف، قرأت شكسبير وماركس وجكرخوين..، ولكن هذا لايهم، فلو رأيت أحداً من هؤلاء المجانين لصدقتني، وبنظرات باردة تفحص وجوهنا، ثم رفع حاجبيه ومط جسمه النحيل كقطة، ودفع بنظراته المتلهفة خلفنا، وسرعان ما عجن الضيق أسارير وجهه الأسمر المعروق، وبنفاذ صبر ضرب الأرض بقدمه وغمغم:
-اللعنة، أين بقي هذا المعتوه؟
وعلى الفور سأله أحدنا:
-عمَّن تسأل يا خال؟
-هوارو.. أعني نوافو!! رد الرجل بلهفة وفتح عينيه البنيتين على اتساعهما ينتظر الجواب، فأجابه صوت أجش:
-انتظر قليلاً، هذا وقت مروره من هنا.
همس صوت عميق جاء ممطوطاً:
-حلو والله.. ينقصهما نوافو لتكتمل الحفلة.
(لماذا نوافو؟! وماعلاقة هذا المجنون الوديع بجنون مدينتنا؟ تساءلت في سري.. وجدتني أفكر في نوافو)
نوافو: ابتسامة هادئة مطبوعة دائماً على شفاه متعبة.
رأس كبيرة تعلوها عمامة أو قبعة عسكرية مموهة. جثة ضخمة محشورة في ثياب جبلية فضفاضة مزركشة.. وفي بعض الأحيان بدلة عسكرية مموهة أو زي شعبي محلي آخر. وصور لزعماء وثوار وأوسمة وشعارات غاضبة أو ناقمة أو فاضحة تفترش صدره وكتفيه وبطنه.. يجوب بها هوارو، أو تجوب بهوارو المدينة صباح مساء.. وكلما غيّبه حي، أو ابتلعه بيت أو دكان لهنيهات أو سويعات – إلا وجديد قد جُدَّ على هوارو –حذفاً أو إضافة- في الصور أو الشعارات أو الزي..
بإحساس غريب بدأ يداخلني، والنظرات سنونوات مذعورة تفر من العينين، طفقت أتابع المشهد وأنا أشنف أذني بسماع حديث الرجل البلدي الذي سمعته يقول للسائح:
-أتعرف متى يطق عقل عبلة تماماً ياسيدي؟
ومتى تثور ثائرة فلمزو
ومتى يهستر صطيفو
وكذلك شوشي وحبسونو و و ..
إنها مسألة بسيطة ياسيدي، جد بسيطة، ما عليك إلا أن تنادي واحداً منهم باسمه، نعم باسمه الحقيقي، هكذا وأنت تصادفه في مكان ما.
-ياعبلة.. أنت يا صطيفو.. فلمزو..
وتعال تفرج.. سترى العجب. نعم يا سيدي، العجب العجاب.
وراح صاحبنا يسهب في الشرح والسائح مطرق الرأس مستسلم له. ومن بين الجمع الغفير سرت تعليقات متفرقة. فغمغم أحدهم:
-صاحبنا يبدو مجنوناً مثقفاً.
-لنسمع الحكمة من أفواه المجانين.
-هذا إذا لم نكن نحن المجانين حقاً.
-مجانين مجانين، وهل العقل نفع؟!
واستحالت الغمغمات والهمهمات إلى ما يشبه ضجة التلاميذ في الصف.. واستمرت لدقائق. ولم يقض عليها أو يسكتها صراخ معلم أو تلويحة من عصاه، بل رجل قذف به إلى جوف الحلقة، حيث الرجلان
–البلدي والسائح- فتسمر في مكانه كالصنم بثيابه الجبلية الفضفاضة وعمامته والشعارات الصارخة والصور والأوسمة التي توزعت بتبعثر على أنحاء جسمه، فتدافعت الأجساد، وبرقت العيون بالنظرات الغريبة، وناداه بعضنا ساخراً. وسرعان ما قبض الرجل البلدي على يد نوافو وقدمه للسائح كالظافر قائلاً:
-انظر وتمعن ياسيدي.. هذه هي مدينتنا بحق.
وأشار إلى مهرجان الصور والشعارات الصاخبة على سترة نوافو.
يا للهول..!!
فغرت فمي دهشة مع من فغر، وأنا أتمعن هذه الصور والشعارات بمشاعر غير مشاعر الهزء والسخرية.
وكأن صاعقة قد هوت من عل للتو.. وأحالت المكان إلى أثر بعد عين. تمدد صمت ميت للحظات، ودارت العيون في المحاجر تبحث عن مستقر لها أو ..مفر، وسجت ابتسامة مخنوقة على الشفاه..
وراح الجمع يتبدد سريعاً كدخان.. وأثناء تدافع الأجساد والمناكب وغمغمات الألسن المتلجلجة همس صوت في أذني:
-هل عرفت مدينتك يا سيدي؟
لم يستوقفني السؤال على الرغم من حرارة النفس الذي لفح أذني مع الهمس، ويقيني بأن السائل يعنيني بالذات بسؤاله هذا، إلا أن الفضول لم يدفعني –لا بيدين خشنتين ولا بيدين رقيقتين- نحو صاحب الصوت، ولم أتلفت حولي –لا كامرأة بدوية ولا كامرأة حضرية- بل رحت أدفع جسدي بين الأجساد المتزاحمة والمناكب المتدافعة وأنسل خارج الجمع.. بعيداً عن المكان.
أ.أحمد إسماعيل إسماعيل:
قاص وكاتب مسرحي كردي سوري، تولد مدينة القامشلى، مقيم حالياً في ألمانيا. صُدر له سبعة عشر كتاباً ما بين القصة والمسرح والمقالة، للكبار والأطفال، منها // ليل القرابين، مسرحيات قصيرة عن دار أوراق، القاهرة سنة 2019 و على سراط البحر، «قصص» نُشر عن دار أسكرايب، القاهرة 2022 //
نال عن أعماله المسرحية جوائز عدة منها « جائزة الشارقة للإبداع العربي- الإمارات العربية المتحدة- عن مجموعته القصصية « رقصة العاشق» سنة 2001.
كان لنا شرف الحوار معه والتعرف من خلال آرائه على المسرح والفلسفة ومحاور أخرى حدثنا عنها مشكوراً .