محمد نور الحسيني / ألمانيا

-انطباعات أولى-
(1)
الكتابة بالكردية حنيني الدائم وشوقي العارم. على هذه التخوم أنصب فخاخي.. منتظراً أسراب القطا تؤمني ـ أو أؤمها – لأتواصل معها دونما عوائق ولا انتظارات كلفتها كانت باهظة بلسان آخر.. وبكلام فصيح مبين أؤكد أنني لم أختر الكتابة بالعربية، أخذتني الأقدار إليها. فالكتابة بالكردية مشيئتي وقدري الذي أواظب على صنعه، أو أحمل بين جوارحي الحنين الدائب لصنعه!.. وهنا لن أفكر في حجم الخسارات التي سأدفعها من التضحية ببعض من التذاذي بلغة ناجزة ـ العربية ـ في الرحلة إلى لغة واعدة ـ الكردية حافلة بالإشكالات والانفتاح على المستقبل والتساؤلات والاشتقاقات المنتظرة والنقاشات المحتدمة حتى درجة الاتهامات الإلغائية ـ مثال السجال حول إنجازات الأمير جلادت بدرخان في إبداع الألف باءالكردية والمفاضلة بينها وبين الحروف العربية- الصورانية – ! ولكني مصر أن أكون جزءاً من هذا الوعد مهما كانت مساهمتي متواضعة. فإني أحمل إصراري للانغمار في هذا الوعد، وأن أسند ولو مدماكاً في هذا البناء الذي يستند إلى عراقة مفتوحة على الآمال..
وأطمح مليا أن أغدو جزءاً من التجربة،والتجربة
لن تأخذني إلا إلى جذوري التي شاءت الأقدار أن أنأى عنها، وأقول بل إن التجربة أخذتني إلى اختياراتي الخاصة في العودة إلى حضن الأم، إذ أتلمّس تماماً أنها هي الوحيدة التي تستحق أن أنحني لقامتها، وهي الوحيدة التي ستعترف بمواجعي وحجم كآباتي ومبلغ تعاستي وضآلة فرحي!. سنفهم على بعضنا دون وسائط ولا رطانات ولا محاسبات دقيقة في النحو والصرف وسأتخفف من الهمزات والفتحات والكسرات والضمات والشدات..! سأرتاح من اندهاشات أصدقائي العرب، حينما يستغربونني كردياً يدرّس العربية لعرب أقحاح على تخوم الخليج و الجزيرة العربية !ويكتب شعراً ونثراً بلغة ليست لغته الأصلية!. حقاً إني أعاني من هذه الازدواجية أفكّر بالكردية وأكتب بالعربية. و..أخيراً أصبح حنيني طاغياً إلى المزاوجة بين التفكير والتعبير لأضع رأسي على صدرها؛ كي أفهم تدفق حليبها بلغة ناصعة صافية رضعتها ذات يوم من صدر أمي، وها إني أسعى حثيثاً للاغتراف من ذات النبع بكل خيلاء العاشق، منجذباً إلى فتنة المعشوق دونما وسائط… ؛لكن هذا لا يعني أني سأتخلى عن الكتابة بالعربية، واسمحوا لي أن أعبّر عن اندهاشي عمن يدعو الكاتبين بالعربية ـ من الكرد – إلى التخلي الجذري أو الفوري عن ذلك دفعة واحدة، والنظر بعدم الرضا إليهم ومناقشة ـ انتماء كتاباتهم ـ حتى إشعارهم بأنهم يرتكبون جريرة ما بحق قومهم!!!، ربما أوافقهم بأنه كباراً منهم – سليم بركات مثلا- خدموا على الصعيد اللغوي العربية ـ لكن على الصعيد المعنوي المتاح قدموا للكرد خدمات جليلة لا تثمّن ؛ فقد التقيتُ بالكثير من المغاربة الذين ذكروا بأنهم لم يطلعوا على جغرافية الكرد ومعاناتهم وأشواقهم للحرية والانعتاق، إلا عن طريق روايات سليم بركات..!! إذن السعي للكتابة بالكردية أمر محمود ومطلوب، لكن علينا أن نتجنّب النزعة الإلغائية التي يتذرع بها بعض أنصاف الموهوبين للتهجم على مبدعين كبار تحت ضغوطات من ضيق الأفق والأمية الإبداعية.. أنا شخصياً أكتب بالكردية ـ إلى جانب العربية – وآمل بالانسيابية في ذلك بوحي داخلي بحت، أشعر أن حضوري ككائن سيتحقق أكثر فأكثرباللسانين المبينين؛ وهنا لا أحبّ أن أرفع شعارات براقة لكني أطمح ـ بشوق عارم – أن أكون خيطاً ينساب في عراقة نهر أمتي. بلغة أمي.. لكن عيني الأخرى لا تغفل عن الظروف التي بزغت فيها قامات سليم بركات وياشار كمال وفي الغابر السحيق شرف خان البدليسي..
السعي للكتابة بالكردية أمر محمود ومطلوب، لكن علينا أن نتجنّب النزعة الإلغائية التي يتذرع بها بعض أنصاف الموهوبين للتهجم على مبدعين كبار تحت ضغوطات من ضيق الأفق والأمية الإبداعية..
(2)
من البداهة إدراك أن محباً للأدب عاش في بيئة كردية تحوطه الكتب العربية أينما وجّه وجهه في محيطه العائلي والمجتمعي سيتربى على ذائقة تهيمن عليها الثقافة العربية ويشغف بها وربما كان في طبقات لاوعيه شيء من التحدي الغافي منذ فك الحرف العربي؛ ليحوز ما استطاع إلى أسرار اللسان العربي سبيلا حتى يشهر ما حازه بوجه من قد يغمز من قومه ممن لايتقنون هذا اللسان! ويقول لهم: هاكم لغتكم وقد مزجناها بآلامنا وأشواقنا فلن تقر لكم عين حتى نفهم ما توسوس بها نفوسكم عنا! نحن هنا وإذا أبيتم أن تتعلموا لغتنا ونحن الذين نعيش وإياكم منذ قرون فإننا قادمون سنقتحم عزلتكم تجاهنا وننقل إليكم صبوات وتطلعات مبدعينا فذي حصتي من التواصل معكم بلسانكم الفصيح؛ رواية يوم من أيام عفدالي زينكي للروائي الراحل محمد أوزون وتلك قصة لفواز حسين – الحدأة- وهذه مجموعة من قصائد ابن العم أحمد حسيني وتلكم قصائد شفيفة لديا جوان وآخين ولات وجان دوست وجانا سيدا وآخرين وهذا التلاقح والتبادل الثقافي خير معبر عن رؤيتي للكتابة بلسانين وكل ذلك لايحجب مسألة مهمة وهي ما فعلته الأنظمة الشوفينية باللغة وشحنها بهالات عنصرية لاستخدام ذلك كسلاح سوبر قومي في حربها لإركاع القوميات الأخرى تمهيدا لتذويبها وذلك ما قام به البعث الآفل في العراق وسوريا وأتاتورك تركيا ويؤكد أن هذا ليس غير الحقيقة المقشرة التي لاريب فيها والتي خلقت ردود أفعال قوية لدى من يزاود ثقافيا ويحاول كيل اتهامات لمن لايكتب بالكردية من المبدعين وصولا إلى محاولات تهميشهم وإذا تطرف بعضهم فلا بأس من تخوينهم!!
(3)
وفي (سياقي القدري الإبداعي) كنتُ ولا أزال أعِدُّ نفسي واحداً من جيل الثمانينيات في قصيدة النثر في سوريا ولم أشعر يوماً أنني كنت أكتب من خارج ذلك المختبر ليس غراماً بالعربية ولا تنصلاً من الكردية الأم إذ يضيق المجال عن سرد أسباب قوية بل عنيفة منعت البيئة الخاصة من اقتحام عوالم كتابتنا بلسان يومي كنا نتحدث به في منازلنا ومع صحبنا وفي المدرسة والصف رغم الإرهاب الذي كان يمارس بحق لساننا ومحاولات عقله وربطه وزرع الأسلاك الشائكة في دروبه؛بدءا من عصي معلمين غرباء وحتى دواليب الأمن في المعتقلات ويبدو أن تلك المحاولات العنيفة لم تؤد سوى إلى ردود فعل عكسية بمرور الزمن وتغير الظروف وأعتقد جازماً أن من فاته قطار الكتابة بلغة أمه يتمنى من قلب مشبوب حار لو كان أتقن الكردية قراءة وكتابة في (خمسة أيام) ولكن هيهات!
(4) في صباي المبكّر كنتُ أقلّب صفحاتِ أول كتابين لعمي الراحل الشيخ توفيق الحسيني، بإعجاب شديد ـ في أوائل الستينيات من القرن الماضي: -1 منتخباتٌ مترجمة منثورة من شعر” الملا الجزيري”،
و-2 شرحٌ مستفيض لقصيدة البردة للإمام البوصيري، وأعتقد أن الكتابين طبعا في قامشلي لدى دارالرافدين ودار اللواء ربما في 1961 ـ! فأحدهما – الجزيري يهيمن على الإبداع الكردي الكلاسيكي والآخر- البوصيري- من كبار شعراء المتصوفة العرب؛ فهذا العم وفي تجاربه الكتابية الأولى واستمرارها ؛عبّر بوضوح عن حال من ابتلي! أو سعد بالتمكن من لسانين (لدودين ) !!!؛ورغم هامشية هذه الإشارة ـ إلا أنها البدايات المحفزة لما تلا من غرامي بالكتاب بالنسبة لي على الأقل.. ففي شعر “الجزيري” اعتدنا على هذا التمازج الذي كان “ يرتكبه” “المُلا” بمهارة رائعة عندما مزج العربية بالفارسية بالكردية وهو يدري ماذا يفعل! ولعلنا أحفاد هذا “ التسامح” الأدبي الذي وهبنا حرية في الانفتاح على الآداب الجارة وانطلاقاً في الخيال وتحرراً على صعيد شكل القصيدة لكن أيضاً كنا (ضحايا )هذا التسامح بشكل أو بآخر!!.
أعتقد جازماً أن من فاته قطار الكتابة بلغة أمه يتمنى من قلب مشبوب حار لو كان أتقن الكردية قراءة وكتابة في (خمسة أيام) ولكن هيهات!
(5)
إن بعض المتابعين للحركة الشعرية لكتاب كرد بالعربية حاول إضفاء نكهة خاصة على الشعر القادم من الجزيرة السورية ذات الغالبية الكردية و في اعتقادي أن هذا الإضفاء كان فيه بعض من القسر لكن هذا لايعني أن السنوات الأخيرة لم تشهد ولادة قصائد وكتابات لدى المبدعين الكرد فيها تمايز على صعيد المضمون تحت تأثيرما شهده الكرد من تحولات في كثير من مفاهيمهم تجاه اللغة والآخر والذات في حمى ما تشهده المنطقة بأسرها من تغيرات (قيصرية) مستمرة! فظهرت خلال ذلك – العقود الأخيرة-أعمال كثيرة بالكردية الللاتينية بين كتاب كرد سوريين من شعر ورواية ودراسات تضاهي المنشور بالعربية بل تتفوق عليها معنى ومبنى! وبالتالي رغم البطء في التحولات الجارية في الانحيازوالعودة إلى اللغة الأم ؛ لكن لا أحد من كرد الكتابة العربية تركها نهائياً سوى أن بعضهم وهو قليل ونادر يسعى ويحاول! لكننا جميعاً وعلى المدى المنظور نقر ليس من موشور تفاؤلي بل من أفق منطقي جلي واضح أن المستقبل هو من نصيب هذه الكتابة الكردية باللاتينية تحديداً وأن الكتابة بالعربية للكتاب الكرد ستواجه كثيرا من المطبات وربما تصل إلى درب ضبابي مسدود..