هيڤي قجو / ألمانيا

سأعود بالذاكرة ردحاً من الزمن حين كنتُ في الخامسة من العمر، وفي الخريف تحديداً حين يشعر المرء برائحة المماحِي وورق الدفاتر تملأ الهواء.
قمت مسبقاً بتحضير الثياب التي عليَّ ارتداؤها في اليوم الأول من المدرسة باعتبار أن الخياط لم يكمل خياطة صدريتي المدرسية بعد، حيث اللون البني الفاتح يغطي على جو المدرسة.
كنت سعيدة جداً ذلك الصباح وأنا أتناول الفطور وصور جمة تتناوب على مخيلتي عن كيفية قضائي للوقت في المدرسة. كانت المدرسة تبعد مسافة شارعين عن بيتنا، تلك المسافة أمست في لحظة أحبَّ إلي من أي شيء آخر.
دخلت باب المدرسة وأنا أشعر برهبة وسؤال بريء يومض في رأسي الصغير. وماذا بعد؟ باستطاعتي القول إن ثمانين بالمائة من التلاميذ والتلميذات كانوا/ن كرداً فمن الطبيعي أن تزدحم الباحة المدرسية بالكلمات الكردية إلا ما ندر بالعربية.
فجأة قدمت سيدة بيدها أوراق بدأت تتكلم بلغة غريبة لم نفهمها، بعد ذلك أصبحت تنادي على أسماء التلاميذ وقسمت الجميع إلى مجموعات وأنا واقفة على طرفٍ وإصبعي في فمي، حتى جاءت إلي وتكلمت معي لكنني لم أفهم ما قالته، ثم همست بالكردية:
ـ لماذا أنت خارج مجموعتك؟
ـ لم أسمع اسمي! ـ ما اسمك؟
ـ هيفي
ـ الاسم الثلاثي؟
ـ هيفي حمو قجو
ـ لنرَ أين هو اسمك؟ آها أنت أمل محمد قجو. هيفي هو أمل بالعربية ونحن الكرد نطلق اسم حمو على اسم محمد، لقد ناديت على اسمك، لكنني لم أسمع الرد!
ـ لكن اسمي هيفي وليس أمل..
ـ أياً يكن المهم أنت الآن هنا في المدرسة واسمك أمل هنا.
الفرحة التي كنت عليها في ذلك الصباح انقلبت إلى حزن ومشاعر كراهية لكل شيء بغير لغتي الأم. رجعت إلى البيت راكضة وكأنني تحررت من سجن كبير. لم أرد الذهاب في اليوم التالي ولا بعده.
ثم أخبرني والدي أنني صغيرة ويجب أن أنتظر لأبلغ من العمر ست سنوات ليسمح لي بالذهاب إلى المدرسة وهناك خطأ في تاريخ مولدي.
فرحت كثيراً لسماعي الخبر وكأن العام القادم لن يكون بتلك اللغة التي بدأت أكرهها!
في المدرسة الابتدائية لم نحاسب على لغتنا الكردية كما في الإعدادية والثانوية لقد كنا نحاسب حتى على الهمسات باللغة الكردية حين نتكلم مع قريناتنا، عدا التقارير التي كانت تكتب بحقنا من بعض الطالبات في المدرسة.
اللافت في الموضوع كله أن شعوراً عميقاً بالحب حلَّ محلَّ الكره الذي كنت أكنه للغة العربية، اللغة التي تعلمتها قسراً والتي فرضت عليَّ اسماً غير اسمي الكردي، حتى الآن حين أنادى باسم أمل لا أستجيب لصوت المنادي كما أستجيب لاسم هيفي.
اخترت العربية لغةً أقرأ من خلالها كل ما يقع تحت بصري من كتب ومجلات ودراسات، ولغة للكتابة التي أعتبرها عالمي الثاني الجميل الذي أكون فيه هيفي الكردية لكن بقلم عربي.
إلا أنها فُرضِت علي كأمور أخرى كثيرة، لكن عشقاً فريداً من نوعه غدا ينبثق يوماً بعد يوم بيني وبين اللغة العربية، شغفت بها، شغفٌ يخلع عني رداء العزلة التي طالما عانيت منها فبرفقتها أدق الأبواب المستعصية أعبر عتباتها وأنا مفتونة بسحرها المترامي على ضفاف الرغبة. تدفعني إلى الجنون بها تارة وإلى المنطق تارة أخرى, إنها اللغة التي تعلمتها بالإكراه أصبحت متيمة بها، اللغة العربية الجميلة دوماً.
حقيقة هوية الأدب المكتوب باللغة العربية موضوع شائك وإشكالي في لوقت نفسه. إشكالية الهوية حاضرة دوماً في الأوساط الثقافية الكردية تراها تنبثق دوماً في النقاشات والفعاليات الكردية.
هذ الأمر أحدث شرخاً وتصدعاً كبيرين في هذه الأوساط، والسؤال المطروح دائماً وأبداً:
في أي خانة يمكن تصنيف هذا الأدب؟ هل هو أدب كردي الهوية من بسبب موضوعه أم أدب عربي بسبب لغته؟
لا شك أن هناك من يرى أن هوية هذا الأدب هي كردية، لأنه أدب قادر على الإحاطة بالروح الكردية، الهسهسة الكردية التي تنبع من مصادر شتى والوجع الكردي. ومنهم من يراه عربي الهوية لأنه مكتوب بلغة عربية؛ فاللغة من أهم المقومات التي يتمتع بها شعب ما إلى جانب عاملي: التاريخ، الأرض،
باستطاعتي القول أن الكاتب/ة حين يكتب/ تكتب بالعربية هذا لأن المخزون الثقافي العربي لديه/ا قد تجاوز المخزون الكردي، ففي مرحلة ما كان من الصعوبة بمكان العثور على مصادر كردية يُعتمد عليها، فندرة الكتب الكردية إضافة إلى لغة التعليم التي كانت بالعربية أفسحت حيزاً كبيراً في ذهنية الكاتب/ة للغة العربية على حساب اللغة الكردية التي كانت فقيرة ويعوزها الكثير من العمل الدؤوب حيث كانت اللغة المحكية في البيت والشارع والوسط الكردي تحديداً.
أن الأدب بغض النظر بأي لغة يكتب أو ينشر هو إبداع، خلق جديد وإضافة ماتعة للإنسانية.
الآن مع وفرة منابع الأدب الكردي التي باستطاعة الكتّاب/الكاتبات أن ينهل(وا) ن ما يستطيب منها وما لذّ، إلى جانب أنهم/ن يحتاج(و)ن إلى صبر وراحة بال عظيمين لأن المخزون الثقافي عربي هذا بالنسبة للكتاب والكاتبات الذين/ اللواتي لم (يشهدوا)ن النقلة النوعية للغة الكردية مؤخراً وتوفر التعليم بها وغنى المكتبة الكردية بالمصادر التي أمست متوفرة للجميع على السواء.
يمكنني القول إن ما يكتب وما كتب بالعربية من خلال كاتبات وكتاب كرد أدب لا يمكننا إطلاق اسم أدب كردي أو عربي عليه، هو أدب آخر ولد نتيجة اقتران جميل بين الفكر الكردي واللغة العربية، إبداع متميز يختلف عن الأدب العربي بما يحمله من روح ومشاعر وأحاسيس كردية بحتة أدب يمتاز بإحاطته بالواقع الكردي من كل الجوانب لكن بكتابة عربية، وليس أدباً كردياً لأنه كتب بلغة لا تمت للغة الكردية بصلة وأقصد هنا اللغة الأم للكاتب/ة.
لا ننسى أن كثيراً من الكتاب والكاتبات كتب(وا)ن بغير لغاتهم/ن واحتلوا مراتب عالية في الأدب. ويمكن للمرء أن يقول: أن الأدب بغض النظر بأي لغة يكتب أو ينشر هو إبداع، خلق جديد وإضافة ماتعة للإنسانية.