حنين …! جان بابير

جان بابير

كلما

تذكرت البيت القديم يتعثر قلبي، أتوجع لفقداني المكتبة ولسان نيتشه الفحمي، وتجاعيد التصوف في نيكوس. تصاب ذاكرتي بالشلل، تتحرك داخل جدران الغرف والباحة، لقد باتت كسيحة، لا تستطيع السير خارجاً. بكائي الأول يتملكني شهقة شهقة، فواصل مدية تحز صدري شطراً شطرا، تنقسم ذاكرتي
على البيت الأول ربعاً، وعلى كلبنا الذي كان يطارد نباحه ليلاً، والنصف الباقي حصة امرأة جاءت متأخرة لترافقني في كل المحطات كأنها سيري وظلي الذي يرافقني؛ امرأة تشبه شجرة ناضجة وقصيدة بالغة. بيتنا بدا فارغاً من الضوء، ونبتت الذكريات كالفطر في زواياه المعتمة، خرج دستويفسكي بلحيته من بين الكتب، لذلك البيت الطيني رائحة أجمل من عطر هوغو شتاءً. أضيع في بذخ الألم صيفاً لأعد النجوم، وصرير الجنادب يأخذني أربعين عاماً إلى تلك الطرقات المتربة بالحنين والعبث، أستيقظ بكلمة صباح الخير، لكن ليس في ذلك البيت وليس في ذلك العمر، أغسل وجهي الطفولي بضوء الصباح، أتناول الفطور حباً وجبناً وخبز صاج من يدَيّ أمي، أركض بمعدة شبعة برفقة كلبنا بين الحقول التي تأخذ أشكالاً مستطيلة ومربعة، وأخرى عبثية التشكيل بين اللون الأحمر للتراب، والأصفر لنضج المواسم، والأخضر لمواسم قادمة بأقدام من الندى. وقت الغروب أراقب عصافير الدوري وهي تدخل أعشاشها بين الأعمدة البارزة من البيت الطيني، وهي تودع الضوء لتعانق الظلمة، عكازا يقود ذاكرتي العمياء. أتكئ بظلي على الجدار المتهدم وأشهق بموال الرحيل؛ موال الموت، والحمام يلتقط هديله من الحقول المزروعة للتو، ويضيع صوته في متاهات المدى، يدوّن الهديل نشيده الأخير داخل حنجرة الغياب، وأنا أتربص بي في الوحدة، أجالس ذاكرتي في مقهى بعيد وسنين طويلة كأشجار الحور في تلك القرية البعيدة.