جان دوست

هوية أدبية في المنفى، وحنين لا ينطفئ
لم يؤثر الاغتراب على هويتي الأدبية، بل منحني هامشاً واسعاً من الحرية، حرية الكتابة بلا خوف من رقابة تعيق الأفكار أو تجتزئ الكلمات. أعيش في الغربة منذ ربع قرن، لكنني ظللت غريباً عن البلاد التي وفدت إليها، بعيداً عن الاندماج الكامل في ثقافتها أو التشرب العميق بلغتها. لم أسعَ إلى الكتابة بلغتها، ولم أجد نفسي مدفوعاً لذلك، بل بقيت وفياً لأسلوبي المعتاد، أكتب بهدوءٍ، كما لو أنني أغزل قصصي على مهل، بعيداً عن الضجيج.
الأدب كقوة ناعمة
لطالما كان الأدب قوةً ناعمة، تأثيره أشبه بتأثير جناح الفراشة؛ طاقة خفية تترك أثرها في الأفراد والمجتمعات على نحو قد لا يبدو مباشراً لكنه عميق. ولأن الأدب جسر يربط بين الثقافات، فإن ترجمته إلى لغات الشعوب التي نعيش بينها تصبح ضرورة. الأدب قادر على أن يعكس آلامنا، مآسينا، وهواجس مجتمعاتنا التي غادرناها، كما يمكنه تعريف الآخر بهويتنا التي قد تبقى غامضة إن لم نوصلها عبر هذه القوة الناعمة. الأدب، في جوهره، هو نافذة معرفية واسعة، تطل منها المجتمعات على بعضها البعض.
الحنين إلى الوطن: نوستالجيا متبدّلة
أبطال رواياتي يرحلون، يحنون، ويتنقلون مثلي بين الأمكنة. أنطقهم بلوعة الحنين التي تجتاحني، أشعر معهم بشدة الاشتياق إلى وطن لم أعد أراه، وربما لن أراه أبدًا. لكن في السنوات الأخيرة، بدأت مشاعري بالتبدل، وكأن الحنين نفسه تبلّد أو تماهى مع فقدان المعالم. كل أهلي تفرقوا في المنافي، والبيت الذي ولدت فيه، الحارة التي احتضنت طفولتي وشبابي، المدينة التي كنت أنتمي إليها، كلها اندثرت أو تبدّلت ملامحها. صرت أحنّ إلى ماضٍ أكثر منه إلى مكان، نوستالجيا أقرب إلى المرض، حنين يغرقني في تفاصيل حياة لم يعد لها وجود، لكنه يستمر بالتوهج داخلي وكأنه حاضرٌ لا ينتهي.
حرية المبدع وشروط الإبداع
لطالما اعتبرت الحرية، بمفهومها الشامل، شرطاً أساسياً للإبداع. كما تحتاج الطيور إلى سماء لتحلق، يحتاج المبدع إلى فضاء رحب من الحرية كي يرفرف بأجنحة أفكاره دون قيود أو عقد. من بين فضائل المهجر أنه أتاح لي هذه السماء المفتوحة، حرية جعلتني أتناول القضايا الشائكة دون تردد، قضايا الإنسان ومعاناته، الاستبداد وجذوره، والتاريخ الذي، دون فهمه، يستحيل فهم الحاضر.
تجربتي الأدبية، كغيرها من تجارب زملائي، تُعنى بالإنسان في جوهره، بآلامه ومآسيه وآماله. الأدب، بالنسبة لي، ليس رفاهية بل أداة مقاومة، وسلاح يكشف، يعري، ويحفر عميقًا في جذور الحقيقة.