عبدالباقي حسيني

في تجربة الهجرة، يجد الإنسان نفسه أمام ثقافة جديدة، وأدب مختلف، وأساليب مبتكرة في الكتابة، كما يتعرف على كتاب لم تُترجم أعمالهم إلى لغاته المحلية، سواء الكردية أو العربية. هذه المعرفة الجديدة تُحدث تغييرات واضحة في أسلوب الكتابة، إذ تُثري تجارب الكاتب أو الصحفي وتترك بصمتها على هويته الأدبية بعد الهجرة، وهو ما شعرت به شخصيًا. قبل وصولي إلى أوروبا، كنت متأثرًا بكتّابنا الكرد الكلاسيكيين، إلى جانب الأدباء العرب، كما قرأنا بعض الأعمال الروسية والفرنسية المترجمة. أما في أوروبا، فقد أضافت وفرة الكتب المترجمة وتنوعها، إلى جانب التعرف المباشر على الأدباء المحليين وأساليبهم الفكرية والكتابية، رصيدًا ثقافيًا جديدًا إلى تجربتي، وانعكس ذلك بوضوح على كتاباتي.
على سبيل المثال، تعرّفت في النرويج على الكاتب هنريك إبسن، الذي اشتهر بمسرحيته بيت الدمية، المترجمة إلى أكثر من أربعين لغة. هذه المسرحية تركت في نفسي انطباعًا عميقًا حول جرأة الكاتب في زمنه، خاصة عندما تناول موضوعًا شائكًا كـ”طلب الطلاق من المرأة”، وهو أمر أحدث ضجة كبيرة في المجتمع النرويجي آنذاك.
دور التبادل الثقافي
يؤدي التبادل الثقافي دوراً إيجابياً كبيراً في إثراء المجتمعات. إذ يُتيح الكاتب المهاجر فرصة نقل ثقافة بلده الأصلي إلى المجتمع الجديد، والعكس صحيح. هذا التفاعل يُسهم في تحقيق تنوع حضاري بين البلدين. فعلى سبيل المثال، عندما تُترجم قصة أو رواية كردية أو عربية إلى اللغة النرويجية، فإنك تُعرّف القارئ الغربي بثقافة مجتمعك الشرقي، كما حدث مع رواية الليل كما هو للكاتب نيروز مالك، التي ترجمتُها إلى النرويجية. الرواية تناولت يوميات الحياة في مدينة حلب أثناء الأزمة السورية، وقد أثارت ردود فعل كبيرة لدى القراء النرويجيين الذين تعرّفوا من خلالها على تفاصيل دقيقة عن حياة السوريين ومعاناتهم.
وفي المقابل، عندما ترجمتُ قصائد وقصصاً نرويجية إلى اللغة الكردية ونشرتها في مواقع أدبية كردية، لاقت تلك الترجمات صدى جميلاً لدى القراء، إذ أطلّوا على تجربة أدبية مختلفة عن تجاربهم المعتادة.
الحنين إلى الوطن
شعور الحنين يختلف من كاتب إلى آخر، لكنه كان عندي حالة محببة استثمرتها في كتاباتي. في مجموعتي القصصية عكس الطيور، استحضرت تفاصيل طفولتي، فكتبت عن ذكرياتي، وعن المجتمع الذي نشأت فيه: عاداتهم، تقاليدهم، رؤاهم، وطموحاتهم. وجدت في هذا الحنين وسيلة لتخفيف وطأة الغربة، وتعويض البعد الجسدي عن الوطن. أما التفكير في الوطن، فهو هاجس يومي لا يفارق المهاجر. في الغربة، تبقى بخير طالما وطنك وشعبك بخير.
ولا يمكن إغفال دور التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في تخفيف هذا الشعور، إذ أصبح بإمكاننا التواصل مع أبناء الوطن بشكل يومي، مما جعل المسافات تبدو أقرب.
القضايا الاجتماعية والسياسية في أدب المهجر
تُتيح الحرية في المهجر مساحة أكبر لتناول القضايا الحساسة التي قد تكون محظورة في المجتمعات الشرقية. أبرز هذه القضايا هي الجنس والدين. في المجتمعات الغربية، تجاوز الأدب هذه المحظورات منذ زمن طويل، فمثلاً، نجد كاتبة نرويجية تكتب عن حادثة اغتصاب فتاة بكل جرأة وتفصيل، أو كاتبًا يتناول النصوص الدينية بالنقد والتحليل دون أن يتعرض لأي تهديد.
في تجربتي الخاصة، تناولتُ موضوع الجنس بجرأة في روايتي جل بري – أربعون حورية، التي ما زالت قيد الطباعة، وقد نشرتُ فصولًا منها في صحيفة بينوسا نو. تلقّيت بعض الاعتراضات من الأصدقاء على استخدامي لغة صريحة، لكنني كنت أرى أن من واجب الكاتب أن يكسر الحواجز ويُظهر لمجتمعه أن هذه المواضيع ليست من المحظورات، بل باتت من البديهيات في المجتمعات المتقدمة.
كذلك تناولتُ مسألة الدين في قصصي، حيث عالجتُ مسألة استخدام رجال الدين للنصوص الدينية وفق أهوائهم الشخصية لتحقيق مصالحهم. لا شك أن الحرية المتاحة هنا في المهجر منحتني الجرأة على تناول هذه القضايا، وكسر القيود التي كبّلت أدبنا لعقود طويلة.
في النهاية، أدب المهجر هو نافذة مزدوجة، تُطل منها ثقافتنا على العالم، كما تُتيح لنا الاطلاع على تجارب الآخرين. هذا التفاعل يجعل الأدب أداة فعالة للتقارب الإنساني، ووسيلة لفهم أعمق للحياة في تنوعها واختلافها.