أڤين حمو

الهجرة ليست مجرد قرارٍ عابر، بل زلزال يهزّ أعماق الروح ويعيد تشكيل الهوية. هي تلك اللحظة التي تجد فيها نفسك وقد تغيّرت ملامحك، لتصبح شخصاً آخر. ككردية وُلدت بين جبالٍ تحفظ الأسرار، كانت الأرض بالنسبة لي ملاذاً وأماناً. لكن الهجرة قذفتني في فضاء بلا جبال، حيث لا جذور ولا مرافئ. أثرت هذه التجربة على كتابتي كما تفعل الرياح مع الأشجار؛ أحياناً تقويني، وأحياناً تتركني عارية أمام العالم. كتابتي باتت مرآة تتأرجح بين عالمين، تحاول جاهدة أن تعيد صياغة ملامحي التي تاهت بين الوطن والغربة.
الأدب بالنسبة لي هو لغة الروح التي تتجاوز الكلمات. من خلاله أقول: “أنا هنا. أنا كردية، لكنني جزءٌ منكم أيضاً”. حين أكتب، أفتح نافذة تطلّ منها جبالي على شوارع مدنهم. الأدب يمتلك قدرة عجيبة على بناء جسور لا تهدّمها الاختلافات، تلك الجسور التي تصل قلوب البشر ببعضها بعيداً عن الحدود. في نصوصي، أحمل أصوات أجدادي وأغنيات نسائنا، وأعيد لهم الجمال المنسي وسط أهوال الصراع. الأدب قادرٌ على إعادة رسم الخرائط، ليس بخطوط سياسية جامدة، بل بخطوط إنسانية توحّد الأرواح وتختزل المسافات.
أما الحنين، فهو الجبل الذي أحمله أينما ذهبت، ثقلٌ يأبى أن يخف. في كل كلمة أكتبها محاولة يائسة لاستعادة رائحة الخبز الطازج في صباحات قريتي، وفي كل جملة نافذة أطلّ منها على ليالٍ كانت النجوم فيها أقرب. لكن الكتابة ليست علاجاً لهذا الحنين، بل هي سكين تعيد فتح الجرح بدل أن تلتئمه. ومع ذلك، أكتب، لأن الحنين، رغم ألمه، هو الخيط الوحيد الذي يربطني بما كنت عليه يوماً.
أكتب عن الإنسان، عن النساء اللواتي يكسرن صمتهن، عن الحقوق المهدورة، عن الألم الذي نتقاسمه جميعاً. في المهجر، الحرية ليست مجرد هدية، بل مسؤولية ثقيلة. إنها تتيح لي أن أكتب بجرأة عن الهوية، عن النضال، وعن العدالة، لكنها تذكّرني أيضاً بثقل الغربة، لأن كلماتي قد لا تصل دائماً إلى من كتبتها من أجلهم. ومع ذلك، أكتب، لأن الصمت في الغربة خيانة للذات، ولأن الكتابة هي طريقتي الوحيدة لأقول: “أنا هنا، وما زلت أحمل معي صوت شعبي وذاكرة أرضي”.