نارين عمر

الهجرة والاغتراب لم يؤثرا على هويتي الأدبية أو أسلوبي في الكتابة، بل استمرت رحلتي الأدبية كما كانت في الوطن، بالكتابة والنشر وطباعة الكتب. لكن الفارق كان في المواضيع المطروحة والرؤى التي أضافت أبعادًا جديدة إلى تجربتي. فالإنسان، كما يُقال، ابن بيئته، يستقي منها أحلامه وأفكاره، ويحوّلها إلى نصوص تصقلها مشاعره، ثم يسكبها على الورق. في بلاد المهجر، تداخلت في ذاكرتنا الأدبية مشاهد وشواهد جديدة مرتبطة بحياتنا في الغربة، وواقعنا المستجد الذي احتاج إلى زمنٍ غير قصير للتأقلم معه، دون أن نفقد جوهرنا. حاولنا أن نحافظ على كينونتنا وهويتنا كما كنا في الوطن، مع التكيّف مع المحيط الجديد لنُعرّف الآخرين بذاتنا وهويتنا ورؤيتنا.
الأدب يحمل بين طياته قوة خارقة لبناء جسور ثقافية ومعرفية بين الشعوب، إذا استُخدم بأمانة وحكمة. هو وسيلة لصهر الأفكار والمشاعر في نصوص ترتقي بالإنسانية وتُمهد لتلاقي الحضارات. منذ وصولي إلى ألمانيا، سعيت بكل جهد لتعريف الشعب الألماني في منطقتي بشعبنا، بثقافتنا، بلغتنا الحية التي ما تزال تحمل هويتنا المتميزة. بذلت جهدًا مع أولادي وبعض الأصدقاء الألمان لترجمة بعض قصائدي إلى اللغة الألمانية ونشرها في كتاب، بهدف إتاحة نافذة يطل منها الآخرون على أدبنا وثقافتنا. كان للكتاب صدى إيجابي بين الألمان وغيرهم من الناطقين بالألمانية، حيث أُقيمت لي أمسيات شعرية وندوات. كما قام الدكتور صبحي حسين بترجمة نصوصي إلى اللغة الإنجليزية، مما فتح نافذة أخرى للتواصل مع جمهور جديد.
شاركت في فعاليات ثقافية متنوعة، كالأمسية الشعرية التي أُقيمت في يوم اللغة الكردية، حيث ألقيت أشعارًا عن لغتنا باللغتين الكردية والألمانية، وتحدثت عن أهميتها. وفي احتفال نوروز، قدّمت قصيدة بثلاث لغات: الكردية، الألمانية، والعربية، في لقاء جمع شعوبًا متعددة. هذه الأمثلة تبرز دور الأدب كجسر ثقافي يعبر فوق الاختلافات، مُوحّدًا الشعوب عبر لغته الإنسانية.
أما عن الحنين إلى الوطن، فقد كان ارتباطي بمدينتي ديريك ووطني عميقًا لدرجة أنني لم أستطع وداعهما. حملتهما في قلبي، وواصلت طريقي إلى الغربة دون أن أنفصل عنهما روحيًا. الكتابة كانت ملجئي في مواجهة الشوق والاغتراب. عبر النصوص، كنت أروي عطش الحنين وألجم لوعة الاشتياق. الغريب أن الكتابة لم تداوِ أوجاعي فحسب، بل أصبحت صوتًا للآخرين، مرآةً لمشاعرهم، وبلسمًا لجراحهم.
القضايا الاجتماعية والسياسية لطالما كانت محور كتاباتي، سواء في الوطن أو في الغربة. كتبت عن أوضاع شعبي، عن قضايا المرأة، الطفل، والهوية، قبل أحداث 2011 وبعدها، في الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية وحتى في منشورات الأحزاب الكردية. استمررت في هذا النهج في المهجر، لأنني أؤمن أن الكاتب الحقيقي لا ينتظر أجواء الحرية ليكتب عن القضايا الجوهرية. الكتابة في ظلّ القمع والتضييق هي الامتحان الحقيقي للكاتب. في أوقات الشدة، يصبح القلم أكثر قوةً وضرورة، لأنه حينها يكون الصوت الوحيد الذي يصدح في وجه الصمت والظلم.