لحسين أوزين

غالبا ما تخفي الأقنعة الدينية رغبة كبيرة في عيش وهم الولادة من جديد بصورة تكون أقرب إلى إعادة الخلق. تبدو اللحية والحجاب بمختلف أشكاله الجزئي للرأس أو التام،, كالنقاب جزءا من ثقافة الموت وتمجيد الآخرة وازدراء الحياة الدنيا، ونعتها بدلالات قدحية للانتقاص من جمالها،, وروعتها وقيمتها الوجودية، فهي العاجلة التي ليست أكثر من متاع الغرور واللهو والفتن والموبقات…لكن التأمل العميق يجعلنا ندرك أن هذا التعلق الظاهري بالموت/الآخرة ليس أكثر من رغبة جامحة في الولادة من جديد، حيث تلبس المرأة أقنعتها كما لو كانت تلج رحم المخاض للولادة من جديد. تعود للاختباء في هذا الرحم المظلم والمعتم سوادا رفضا للولادة الأولى، أو بتعبير أدق ثورة ضد قصة الخلق التي احتضنتها الكتب المقدسة التي وصمت المرأة بالسوء والخطأ والخطيئة. تعود عبر معراج المتخيل النفسي الثقافي الديني إلى الرحم للتطهر و للتطهير من عبء ثقيل لتاريخ الخلق من الضلع الأعوج المتلازم بالخطيئة والكيد والدس والإغواء والإغراء …لكن هل هذه الرغبة العنيفة في الولادة من جديد هي محض فكرة ذاتية قائمة بذاتية المرأة،, كنسل جديد، عفيف مختلف عن المرأة الشيطان والحرباء الآثمة التي استحقت غضب ولعنة الإله، وما نتج عن ذلك من سلسلة السقوط، من الجنة إلى العاجلة الفانية المليئة بالشهوات والمتع، و بالحروب والفتن والخزي والذل والعار، أم أن الفكرة هي ليست أكثر من تعبير ذكوري مهووس وممسوس بحلم السيطرة والهيمنة والقهر والقوة إلى درجة الرغبة الدفينة في الالوهة، والتفكير من ثمة في عملية خلق جديد، فيما يشبه نسخ الخلق الأول الذي أثقل على نفسية الإنسان بعذابات الذنب والتأثيم؟ لذلك لا نستغرب أن تسود آلية الناسخ والمنسوخ المسيجة إلهيا، و هي تتحكم في مصير الأفراد والجماعات والمجتمع،, وفي الدولة والفكر والثقافة. قد يكون الأمر كذلك خاصة حين يرفع هؤلاء الرجال شعار الحاكمية لله، وهم يقصدون في ذلك أنفسهم كآلهة مخبأة في اللاوعي الجمعي للمخزون الثقافي الديني الذي أطر وجود الإنسان عبر التاريخ. إنها عملية خلق في المسار الديني الغيبي نفسه، لأنها تعوزها القيم العلمية لتحقق قطيعتها والشروع في خلق إنساني متجاوز لسحر الالوهة، ولفنطا زم قصص الخلق الأسطورية، المغيب لفعل وجود الإنسان، كما استطاعت ذلك الشعوب المتقدمة. نريد أن نقول إن الأمر في كلا الحالتين، في بلاد التنوير، أو بلاد التجهيل، ليس أكثر من علمانية مختلفة في الصيرورة الاجتماعية التاريخية للشعوب.إذا كنا نرى في وجوه الرجال ذات اللحى الحليقة الشارب، و في حجاب المرأة نوعا من التعلق الجنوني برحم الولادة من جديد، فلأننا ندرك حجم العذابات المؤلمة والقاسية التي يكابدها الإنسان في اللحظات الصعبة لأزماته النفسية والاجتماعية والاقتصادية …أزمات انسداد الأفاق. والإنسان بطبيعته لا يستطيع العيش في تخوم الأفاق المسدودة، وإلا تعرض للتدمير النهائي والفناء، لذلك يبدع بشكل مؤقت تحرره من أسر الانحسار والحصار الوجودي، بدافع البقاء والحياة ضدا على موته وانقراضه. لنقل سحر الخلود الدفين في لاوعيه يلعب لعبته في المقاومة والنهوض. والإنسان عندما يصل وجوده الحيوي إلى مستوى النفق المسدود والمظلم يستنجد بآلية المتخيل النفسي، الثقافي والحيوي الإحيائي التكيفي، ليس بالمقاومة الايجابية و الاستجابة لمجابهة التحدي، كما يحدث في وضعية القدرة والثقة بإمكانات الذات في تحقيق فعل النصر. لكن في وضعية أزمات الآفاق المسدودة تسود الهشاشة النفسية والمعرفية والعقلية والانفعالية إلى درجة النكوص والهروب من الحياة، بحثا عن وهم الحياة بدافع البقاء والخوف من الموت. لهذا نجده يغرق في لغة الجن والسحر، و الكهوف والقبور، والحجاب والنقاب تحت ضغط الوسواس القهري للتعبد والطقوس والشعائر، بشكل متزمت وقاس، لأن الذات ضيعت أهدافها وصارت عاجزة، مسلمة قدرها لخطاب الأنا الأعلى الذي لا يكف عن تسميم حياتها بعقدة الذنب ومشاعر التأثيم. فليس أمام الإنسان بفعل المتخيل النفسي الثقافي الديني إلا الموت كولادة من جديد، سواء في جهاده المزعوم، حيث يختار بمحض إرادته مخاض مصيره القادم، كحي عند ربه يرزق، فهو يموت كي يولد من جديد. “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” أو يمكن أن يعتمد آلية التقمص والتماهي كآلية لتجاوز الموت، أو كما قلنا سابقا الاندماج في عملية الخلق للذات وعالمها من جديد، من خلال العودة إلى تمثلات اللاوعي الجمعي، كمخزون ثقافي اجتماعي شامل، يؤسطر التجربة الوجودية للإنسان، بتقمص مستويات النمذجة في التصعيد والتسامي الخرافي الأسطوري لشخصيات تاريخية جملت وزُينت وقدست صورتها البشرية، كمن سموا بالصحابة والتابعين والأولياء والصالحين من سيوف الدين وأقلامه الأشاوس …تلعب آلية التقمص لعبتها الهذيانية النكوصية، فينسلخ الإنسان عن زمنه وعن ذاته وتجربته التاريخية الاجتماعية، و يتخيل بهوام جنوني غرائبي ساحر و خلاب القدوة الحسنة لنمذجته، و قد حلت في جسده وهيئته وأعماقه، سواء كان يطل من عنق الرحم( لم نقل يطل من فرج الولادة من جديد ) كما تبدو وجوه الرجال الحليقة الشارب، أو من داخل عسر مخاض عقم رحم الحجاب المعتم .كم هي مغرية لعبة وقصة الخلق التي نشأ في أحضانها الإنسان الديني؟ الشيء الذي يجعله مدفوعا بلاوعي إلى إزاحة الإله من عرشه والتكفل بالعالم نيابة عنه، ليس فقط في تدبير شؤون الخلق، الحاكمية، بل أيضا في إعلان نصوص وحيه المقدسة، كما تم مثلا في صناعة الحديث والسيرة والمغازي… بما يوافق عملية الخلق من جديد، وتدمير الأفراد والجماعات الموصومة في نظره بالمارقة والشرك والتكفير رغم إسلامها. وإلا كيف نفهم نسخ التوبة والرحمة بالقتل والرجم؟ كم هو سخري وكارثي هذا الكرنفال الوثني الديني لتعدد أقنعة الآلهة في القول البشري، وهي تقدم الحياة قربانا لوهم أسطورة الولادة أو الخلق من جديد؟