العمى السيادي في -رواية “سائق الحرب الأعمى” لأسعد الجبوري

تقديم: مثال سليمان

تُعد رواية سائق الحرب الأعمى للروائي والشاعر العراقي أسعد الجبوري عملًا فنيًا يتجاوز السياقات المألوفة في أدب الحروب، حيث تنصهر الواقعية المتخيلة مع السريالية الفادحة لتُنتج نصاً متشابكاً، مركباً، يستدعي القارئ إلى إعادة النظر في مفاهيم الحرب، الهوية، والذاكرة الجمعية للعرب والغربيين على حد سواء.

١-سردٌ معكوس من داخل الجحيم:

اعتمد الكاتب على تقنية سرد متداخلة، في عشرين جزءاً غير معنونة، تستند إلى استرجاع الذات الأميركية المتواجدة رغماً عنها -المتمثلة في شخص الروائي الضمني زولا- في العراق، وهو جندي أمريكي يخوض صراعاً داخلياً عميقاً بين ما يعيشه من رعب واقعي وبين ما يتخيله من عوالم وأحداث بديلة. الشخصية الرئيسية لا تتعامل مع الحدث من قلبه، وتحاول النجاة عبر بناء سرديات بديلة تشوّش وعي القارئ بقدر ما تكشف عن الخواء النفسي والتهويم الذهني للجندي الذي جاء غازياً، ليتحول إلى ضحية.

٢-الحرب كعبث يقوده أعمى:

العنوان “سائق الحرب الأعمى ” يعكس الثيمة الرمزية المركزية في الرواية، حيث الحرب نفسها تتجسد في كائن بلا بصيرة، يجر البلاد والعباد إلى الهلاك. لا يحدد الجبوري سائقاً واحداً؛ إذ يتناوب على هذا الدور أكثر من طرف: الغازي الأميركي، الحاكم الديكتاتوري، والمواطن المنتقم. الجميع يسهم في توجيه الحافلة/الوطن إلى الهاوية، ضمن دوامة من الصراع العبثي الذي لا منتصر فيه سوى الخراب.

٣-التلقي الساخر للآخر: العربي والغرب:

تنطوي الرواية على نقد ثنائي الاتجاه: فهي من جهة تكشف الصورة النمطية التي يحملها الغربي عن العربي بوصفه كائناً بدائيًا، دمويًا، يعيش في الصحراء ويرتبط بالوحشية والأساطير؛ ومن جهة أخرى تفضح النظرة العربية للغربي باعتباره المنقذ في الظاهر، لكنه في العمق رمز للتدمير والتشويه الممنهج لكل مقومات الحياة. هذه النظرات المتبادلة تخلق مشهداً متشنجاً، تتصارع فيه الحقائق مع الأوهام، والواقع مع الأسطورة.

٤-العائلة الأميركية كنموذج للتفكك الحضاري:

يبدأ الجبوري من نيفادا، حيث يقدم عائلة أميركية مفككة وغريبة الأطوار، تمثل نموذجاً مضاداً للتماسك الأسري والثقافي. أديث، الأخت المنغمسة في الأساطير، تمثل الجسر بين الخيال والواقع، وتؤسس بتصوراتها الميثولوجيا-mythologique عالماً بديلاً يراه أخوها “زولا “طريقًا للهروب من واقع العائلة ومن حياته الشخصية الملتبسة. العلاقة مع الخادمة فوحي، الأب غرين، والأم جوليا، تُظهر التفسخ الأخلاقي والاجتماعي الذي يدفع بزولا إلى الالتحاق بالجيش، لا من منطلق وطني إنما من حاجة داخلية لاكتشاف الذات في مرايا الآخر.

٥-الزواحف المدرّعة: الرمز المزدوج:

من أجرأ عناصر الرواية وأكثرها سريالية هي فكرة الزواحف المدرعة التي تفرز مادة تحول بنية الجلد، وتُستغل لاحقاً لتحويل البشر إلى كائنات أشبه بالروبوتات، متمردة، عدوانية وعديمة الشعور. هذه التيمة ترمز إلى تحول الإنسان بفعل الحرب إلى كائن مفرغ من القيم، يتحرك وفق برمجيات السيطرة والخوف. كما تسخر الرواية من العلم حين يتحول إلى أداة قمع لا إلى وسيلة تقدم، ومن السُلطة حين تستنسخ الوحش بدلاً من الإنسان. تتقاطع هذه الصورة مع ما أصاب البيئة العراقية، إذ يشير النص إلى تشوه التربة والكائنات بسبب الأسلحة الكيميائية، ما يجعل من الزواحف تمثيلاً لكل ما هو مشوه وفاقد للإنسانية.

٦-تفكك البنية السياسية والاجتماعية العراقية:

رغم أن الرواية لا تتحدث مباشرةً عن الديكتاتور، فإنها تقدم صوراً متعددة للقمع والفتنة والانهيار المجتمعي. الفتن السياسية والطائفية تأخذ طابعاً وبائياً يتسلل إلى أدق تفاصيل الحياة، ويصوّر الجبوري العراق كجسد يعيش على الحافة: أرض محطمة، شعب مشوه، وحكام يتنقلون بين الجنون والقسوة. ومن ثم، بذكاء، يعيد إنتاج مشهد الديكتاتور عبر قصة اللقاح الذي حوّل الملقحين إلى وحوش، في إسقاط واضح على تحويل السلطة للشعب إلى أداة عنف متبادل.

٧-الخيال كمأوى أخير:

الجو الكابوسي الذي ينتهي فيه بطل الرواية معلقاً على حبل غسيل في كهف مع زواحف قاتلة وصمت مفترس، يعكس انهيار الأمل، وتحول الخيال من أداة إنقاذ إلى فخ محكم. لا تحرير فعلياً، بل انسلاخ كلي عن الواقع. يعيد هذا المشهد إنتاج النهاية المفتوحة للعالم العربي كما يراها الجبوري: واقع بلا مخرج، وتاريخ عالق بين من دمره ومن ادعى إنقاذه.

٨-تقاطع الهويات وتشظي الذات:

الراوي الأميركي الذي يُشبه العراقي في ما يتعرض له من تهميش وانكسار، يمثل ثنائية المذنب والضحية. الرواية لا تحاكمه بل تحاكم موقعه من الحرب، واختياره أن يكون جزءًا من ماكينة الدمار. في الوقت ذاته، تُظهره ككائن إنساني يبحث عن خلاص ذاتي، عن معنى ما وسط الخراب. الشخصية المزدوجة هذه تعكس رؤية الجبوري بأن الإنسان، أياً كان انتماؤه، هو أول ضحية في زمن الحروب، حتى لو كان جزءًا من آلة العدوان.

*خاتمة وجملة اقتباسات من النسخة الالكترونية:

رواية سائق الحرب الأعمى نص تفكيكي يهشم السرديات الكبرى للحرب والتحرير والوطنية والاحتلال، ويضع الجميع في ميزان نقدي متخيل، سريالي، ينهل من الأسطورة كما من الواقع، ويعيد بناء صور الخوف والجنون والخراب عبر بنية لغوية كثيفة، ومناخ سردي يراوح بين الكابوس والتأمل. عمل أسعد الجبوري هنا لا يكتفي بإدانة الحرب، بل يكشف من خلال فنتازياه العنيفة عن هشاشة الإنسان حين يتحول إلى رقم في معادلات سياسية كبرى، وعن ضياع الأمل حين يصبح الأمن في العالم مطلبًا مستحيلاً.

-نريد الاستمرار بصنع أحذيتنا وبدلاتنا من جلود الآخرين ممن نجد أنفسنا مضطرين لاضطهادهم بأيدي الغير، وفي كل الأحوال علينا تلبية نداءات استغاثاتهم أياً كانت مصادرها.
الفصل السابع

-فالصحارى تجتهد دائما بوفرة السراب في العين، كي يكون ملاصقا لأفكار العقل الذي يضيق بلغة المكان على الرغم من اتساعه.
الفصل السابع

-ومع أنني سخرت من نفسي كثيرا قبل الشروع بالكتابة إلا أن صوت الصحراء الممتزج بالظلام كان دافعاً قوياً لتبني اخلاق لغة ذلك المكان وحده دون تعثر ولا استنجاد ببقية اللغات الأخرى.
الفصل الحادي عشر

-هل قتلت أحداً هناك؟
لا لم يحدث شيء من هذا القبيل
هل بسبب الرمال التي تملأ فوهات البنادق في تلك الصحاري؟
بل لأن أحداً لم يمر من أمامنا هناك.
الفصل الرابع عشر

-لا أبالغ إذا ما قلت إننا لم نهزم الجيش العراقي في حرب عاصفة الصحراء، بل كان مرد ذلك الإنكسار العسكري الشامل هو الجيش العراقي ذاته لأنه لم يقاتل، بل هو الذي فرض الهزيمة على نظام بلاده بعد أن قرر عدم القتال بسبب عدم شرعية الهدف، فترك أسلحته في الصحراء وغادرها إلى أماكن أكثر أمنا والتي عادة ما تسمى بالعلم العسكري: مناطق الأسر.
الفصل السابع عشر.


  • يُذكر: الرواية صادرة عن دار نوفاليس – الكويت سنة ٢٠١٥

اترك ردّاً