لحسن أوزين

جلس الرجل مذهولاً مفجوعاً، مصدوماً. شيء ما، فجأة، وبضربة غادرة انكسر في أعماقه. هل كانت زوجته تتكلم أم كانت تدفع بخنجر حاد الى جوفه العميق. تساءل في نفسه دون أن ينتظر جوابا: ألهذه الدرجة صارت اللغة فظيعة و همجية في فترة سنواتي العميقة؟
هو الآن لا يملك غير الانصات الرهيب، الى كلمات تخرج ببرودة دم من فمها، كما لو أنها تمارس الذبح الحلال من الوريد الى الوريد، بلغة الحق التي لا يعتريها شك الظلم، والاعتداء الفظيع على من كان يعتقد أنه أقرب الناس إليها. هكذا كانت مشاعره ملتبسة متداخلة في فوضى عارمة بين ما قيل في طيات النفس. وبين ما فر، تحت وقع هول الصدمة، من أحاسيس ومشاعر مؤلمة،الى منطقة مجهولة في الذات والجسد والروح.
لم أطلب منها أن تساعدني في مصروف البيت. ولا كانت عندي انتظارات أو توقعات، مما يمكن أن تقدم عليه، من تصرفات وسلوكات ومواقف فيما يخص أجرتها كموظفة. نوع من الكبرياء والكرامة و الاختيار الأخلاقي هو الذي جعلني أختار لنفسي هذه الأفكار والقناعة. طبعا بالإضافة الى الكثير من القيم والمبادئ التي تجعلني أنظر الى المرأة بالتقدير والاحترام. ولكن حتى أكون صريحا مع نفسي أعتقد بشراكة البيت بعيدا عن قوامة الرجل، وفرض سطوته الأخلاقية والفكرية والاعتقادية كيف ما كانت. لكنني الان أشعر بجرح عميق وأذى رهيب أن تضعني في صورة الحي الميت. ومجرد دخل مرحلي، لتصريف متطلبات البيت المادية. مرعبة حقا، الى حد الضغينة الثاوية في النفس، هذه الصراحة الجارحة. والواقعية القاتلة لقيمة وكرامة الانسان، في الخلط بين دوره المادي ووجوده الإنساني. مرعب أنني وجدت نفسي بعد هذا العمر غير مرئي. بعد كل هذه التضحيات معها ومع الأولاد. دون أن أنسى المجهود الكبير من أجل توفير بيت خاص في ملكية الاسرة كاملة. وبكلمة واحدة كانت جوارحي كلها، عيني وقلبي ومشاعري… في خدمة أسرتي الصغيرة. لكنني الان مجرد دخل مؤقت قد يختفي في أي لحظة صغيرة في الزمن…
صحيح أن علاقتها بهذا الزوج، الذي يبدو أمامنا غاضباً منكسراً مجروحاً في أعماقه، فيها الكثير من الجفاف العاطفي. فهو يعتقد بضرورة أن تقدر، على الأقل، تضحيته في تشجيعها لولوج المهنة، وممارسة حقها في العمل. صحيح أنه قام بمبادرة في هذا الشأن ودفع الأقساط المادية. وكان ينتظر منها تقدير ذلك،والاعتراف بنبله، من خلال، قيامها مثلا، بمواقف تعبر عن الامتنان والمحبة. والأكثر من هذا فهذا الرجل يكرر مرارا أن زواجه كان عن اختيار، ضد الأعراف والقيم الاجتماعية التقليدية. هذا يعني أن زواجه عن حب واختيار مستقل. ولكن مؤخرا كثيرا ما قللت زوجته من هذا الموقف والقناعة المبدئية. فهي لا ترى في هذا أي شيء مميز في قدرته، وقراره على اختيار شريكة الحياة، في مجتمع أبوي. يمارس سطوته القهرية على الأبناء، الى حد قتلهم ، كمشاريع وجودية مستقلة. تفرغ هذه الأفكار من قيمتها تجريدا للرجل من أي امتياز علائقي، أو أخلاقي. لكن الرعب المفزع هو عندما تكلمت:
أفكر الآن في شراء بقعة أرضية. لقد جمعت بعض المال من دخلي الخاص. صحيح أنني لم أكن أشارك في مصروف البيت. لأنني أخاف عند موتك بالسقوط في فخ المشاكل المادية. لهذا علي الاحتياط “لدواير الزمان” كما يقول الناس.
نزلت الكلمات كأسياخ النار على جسد الرجل. اخترقته بعنف وحشي، وهو يكتشف نفسه مجرد دخل مادي، وليس حبيبا، زوجا، صديقا أو أخا، أو على الأقل إنسانا له اعتباره وقيمته الإنسانية. ضاعت اللغة في فمه، وتاهت الكلمات، وشرد بعيدا تحت وقع المدية الحادة التي حفرت دون شفقة ولا رحمة لحمه الحي. ومزقت أشلاء مشاعره النابضة بوجوده الإنساني. شعر بنوع من القهر والغصة في الحلق تحكم قبضتها على القلب. تقزز ما، اعتلى دواخله، آخذا في سحبه الى دائرة الغثيان. لعل قذارة المعاني العميقة لعبت لعبتها الخطيرة في نفسه وعقله. ولم يعد قادرا على تصديق ما لا يصدق. لكنه الواقع الحي. مهما تحايل في التأويل، على أن ما سمعه مجرد خوف، وليس قسوة مقصودة،فإنه لا يقوى على نكران الحريق اللاهب الذي أتى على الأخضر واليابس من مساحته النفسية الآمنة. مؤلم جدا أنه وجد نفسه عاريا مجرد قربان لا يملك قيمة الأضحية.
لم أطلب شيئاً. لم أحتج على هذا النفاق بين طلب الحقوق، والقبول بالقوامة المادية. قدم هنا وقدم هناك. هكذا تظهر الوجوه الحقيقية عندما تسقط الأقنعة. لم أكن بكل صدق أعتقد أن يكون للوقاحة والخبث والدناءة والسفالة، هذه اللغة المترعة بالصفاقة الأخلاقية المقرفة، والباعثة على الغثيان والقيء.
عاد الرجل بذاكرته الى الماضي البعيد. الى اللقاء الأول والوعد والعهد الصادق الذي أخذه على نفسه أن يكون مخلصا لنفسه وقناعاته ومبادئه، في عيش حب حقيقي. بعيدا عن معاودة إنتاج العلاقات الاجتماعية نفسها. حلمه كان كبيرا في التغيير، خاصة في العلاقة مع المرأة. تذكر بحرقة الصراعات العائلية في رفض اختياراته المستقلة. لكنه كان واضحا مع نفسه على أن هذه حياته، ولا حق دموي أو نسبي، عائلي أو قبلي في السطو على حريته. كانت الذاكرة تشتغل كومض البرق. تعرض الصور والمواقف والأحداث. الأفراح والأحزان. عندها أدرك أن الحب ليس وجبة سريعة، ولا موضة ثقافية مهما كانت ثورية، لأن شروطا كثيرة تفرض نفسها، حتى تزهر شجرة الحب. أولها جدل التكامل والتفاعل الخلاق. هكذا رد على نفسه بابتسامة باذخة السخرية.
عندما مرت هذه الكلمات والصور والرؤى بسرعة على شاشة ذاكرته، نظر الى نفسه بهزء وسخرية لاذعة. ولم يتردد في شتم تفكيره وخيالاته المرضية التي لا تزال تتشدق اللغة والكلمات والأفكار نفسها. كان حزينا. فاض الحزن وغطى وجوده. ارتعش جسده وازداد نبض قلبه. خائفا من أن تلتبس مشاعره المكلومة النازفة بحرقة بذاته وشخصه وقيمته الوجودية الإنسانية. أدرك أنه تورط في هذا الشد والجذب. بين قسوة الرصاصة الطائشة، أو الدقيقة التي أطلقتها زوجتها، وبين الفصل بين سطوة الألم العميق والمشاعر الحزينة، وقيمته الذاتية، التي تتطلب صراع البقاء.
حاول بكل قوة أن يطفئ الحرائق التي اندلعت في جوفه الحي، ملتهمة مساحته الداخلية الآمنة. لكن الحزن وعذابات الألم، كانت تصنع في الخفاء النفسي هشاشة مرعبة. لذلك انطلق يردد في الشارع  بصوت خافت كالمجنون
أنا جميل وطيب وكريم وسخي، وأحب الخير للناس. لم أبخل بشيء مع أطفالي. فعلت ما أستطيع وما لا أستطيع. والله يراني، وهو شاهد على صدق ما أقول.
يستغرب الرجل الهدوء القاتل لزوجته بعد كل ما حدث. زلزال عنيف خلف حركات ارتدادية في أعمق أعماق دواخل الرجل. انكسارات وشقوق وتصدعات رهيبة ومقلقة. خشي الرجل على نفسه أن تكون قوة الزلزال حاسمة. الى درجة تملكه الخوف في أن يكون غير قادر على السكن في نفسه وروحه وجسده، الذي فتكت به لغة الرصاص الحي، التي خرجت من فوهة فمها، نارا قاتلة. في صورة من فلتات اللسان المخبأة في تجاويف القلب.
كنت واضحة في التعبير عن هواجسي ومخاوفي في أن أعاني بعد وفاته. هكذا فكرت. لكنني لا أعرف لماذا رجحت احتمال وفرضية وفاته قبلي. كل ما أعرفه أن من حقي حماية نفسي من الفقر والعوز. لم يجل بخاطري أن أسبق زوجي في مغادرة الدنيا. لمست من عيونه ونظرته غرابة ما اعتلت محياه. ولكن علي أن أتصرف في دخلي ومالي كما أريد. وعليه أن يتفهمني، وهذا من حقي. لا أعتقد أنني أخطأت أو جرحته، أو تطاولت عليه في شيء. الحياة تحتاج منا الواقعية والصراحة، مهما كانت قاسية، فهي الحقيقة لا تقبل أن نكبتها بالعواطف الكاذبة.
ضحك الرجل الى حد القهقهة، وهو يتخيل مالا ليس من حقه أن يأكل منه، ولو النزر القليل وهو حي يرزق. وانبسط كثيرا وهو يستغرب عماء وسخ الدنيا الذي يجعلنا نبعد الموت عن أنفسنا، ونسقطه على الآخرين بكل سهولة.
إنه لأمر فظيع أن أعيش مع امرأة لا تراني الآن. تغيبني، تمسحني، تسدل الستار على وجودي الحي، كشريك، كصديق، كإنسان صنع سبب دخلها المادي. والسؤال الذي لا جواب له، كيف يقتل الإنسان بيد أقرب الناس إليه؟ فهل أستطيع أن أعيش بجوار هذه المرأة القاتلة التي تمشي في جنازتي وتأكل من ماليوأنا حي يرزق؟
مخجل أيها الكريم أن تكون لغتك سخية الى هذا الحد، في الانفراد بالكلام وإقصائي من دائرة تحمل مشاق السرد. لا عليك هكذا فعل أجدادك أيها الفحل، في سترنا وحجبنا ومنعنا من حق التعبير والظهور. وها أنت ياعزيزي الطيب تكرر ذلك تحت غطاء المظلومية  والخير العميم. مسخرة هذه الحياة عندما نفكر بعواطفنا الكاذبة. لو اقتربت مني كل هذه السنوات من العمر الهارب، كما لو أننا في حالة طوارئ قصوى، لعرفت سر الخوف الكامن في جوف النساء. ترغموننا على الاعتراف بالحب والفضل كما تفعل سلطتكم القمعية بالمعتقلين. سذاجة مقرفة هذه الذكورة المنتفخة التي يعميها قصر النظر القلبي الدفين.
لا أكذبك في كل ما أتيت عليه من كرم ونبل وتضحيات. ولكن عليك أن لا تجعلني يتيمة مكسورة، منبوذة الى هذه الدرجة. وتحشرنيفي خانة القتلة عن سبق الإصرار والتعمد. ما هكذا ياعمريوحبيبي تكتب الدراما ولا تنتج المأساة. لست لا حيا ولا ميتا، نحن معا في وحل الحياة نقاتل من أجل أن تشرق شموس القلب، وحتى لا يبتلعنا ظلام الضغينة، لا أقل ولا أكثر.
تحت وقع الصدمة الرهيبة تتحرك الزوجة يميناً ويساراً في الغرفة. ترفض التنازل لسطوة الذاكرة في أن تمطرها بعشرات الصور القادمة من الماضي البعيد. تعرف زوجها وتحبه كثيراً لكنها تعلمت الصمت، أو بالأحرى علموها الصمت القاهر للعقل والنفس والجسد. فهي ولدت لتسمع وتطيع، وتظل خائفة في يومها وعلى غدها المجهول. فالتهمة جاهزة عند أي سلوك أو رفض وتمرد للتعاليم السماوية والأرضية.
والغريب في الأمر وما كنت أظن أن لك راوياً سادياً وقبيحاً للغاية،لا يشبهك في الاخلاق والمبادئ. ظل يسحبك بذكاء أبوي نحو صناعة المأساة واختزال وجودنا الحميم في العلاقة بين الضحية والجلاد. واستسلمت له ببساطة لأنه عزف على الوتر الحساس الذي يفضله رجال الدين الأشاوس، في القهر والترهيب. لولاوجوهك المشرقة التي تعلمت منها الكثير، لراودني الشك أنك تبحث عن ذريعة للهروب تحت غطاء المظلومية.
لا أخجل من القول إنني تعلمت منك الحرص، و بعد النظر والخوف من المستقبل هو واحد من الأدوات التي نرسم بها خططالمستقبل. لست لا ميتاً ولاحياً. ماهذا التعبير السخيف. فما فكرت فيه بعد الموت الذي يترصدنا جميعا، هو نابع من تفكيرك في أخذ الحياة في أقدارها الجميلة والمأساوية. وأنت أراك يوميا كيف تخطط لكل المصاريف. وكيف تدخر القليل للصدف الجميلة المفعمة بالأفراح في السفر في اللباس…، دون أن تنسى المفاجآت المؤلمة في المرض، أو الوقوف مع أحد أفراد العائلة والأصدقاء، بما نستطيع من مساهمات مادية.
صراحتي فيها الكثير من القسوة في الكلام والتعبير. ولكن الحقيقة مرة ولا ينبغي أن نجمل الواقع ياحبيبي. مشكلتك أن الكثير من الإرث الأبوي لا يزال عالقا في دواخلك. مهما امتلكت من الوعي وآليات النظر والتفكير، فإن الأجداد في لحظات الأزمات وسوء الفهم والتفاهم يتسللون من الشقوق.
ظل الرجل مطرقا ينصت باهتمام لما تقوله زوجته. تقاسيم وجهه تغيرت بشكل شامل. ربما هذا ما ساعده على النهوض من الأريكة قاصدا النافذة المفتوحة. جرح ما في داخله بدأ يلتئم. نوع من التطهير النفسي العميق شمله كليا. وعيناه اتسعتا بشكل بارز ومثير للتساؤل، حول قوة الكلمات التي جعلته يرى الوجوه التي غيبها عنه الراوي المتسلط سليل الاستبداد البطريركي، كما قالت زوجته. صحيح كما قال بعظمة لسانه، وكما تشهد الآن زوجته على أنه حارب طويلا، كل ما يتصل بالنظام الأبوي الذكوري. لكنه كما اعتراف مرارا أن التخلص النهائي من الوسخ البطريركي صعب جدا. نظر الى نفسه وجال ببصره في الغرفة. متأملا كلام زوجته التي كانت تتحرك بهدوء أحيانا. وفي لحظات أخرى ترفع صوتها بانفعال، كما لو أنها تزيح عن صدرها صخرة ملعونة كبرت معها منذ الولادة. لم يعد يخيفها جسدها حين يخرج عن صوابه الأبوي في الحياء الكاذب، والتقوقع المهين لكرامة الإنسان. فجأة تدخل الزوج.
لكن رغم ذلك يجب أن نعترف بأن هذا النوع من التفكير، المشحون بالخوف الى حد يجعلنا يلغي الواحد منا الآخر سيئ جدا. لأنه كما قلت قبل قليل لا يمكن أن يساعد على تخطي علاقة الضحية والجلاد، والتفكير بعيون مفتوحة وقلوب نابضة بالحب، في الارتقاء والسمو بحبنا الى علاقة إنسان /إنسان. فالكلام الجارح فيه عنف وقسوة، وهدم لجسور الواصل الإنساني ، والحوار الهادئ الهادف و البناء.
والجميل فيما قلته سابقا،  في التعبير عن المشاعر المؤلمة التي احتوتني وورطتني في الحزن المجاني، وإصدار أحكام القيمة التافهة. هو أنني سعيت الى بسط يدي لأضمك ولا لأقتلك. فقلت كل ما آلمني دون كبته، حتى لا أترك للضغينة لوثة يمكن أن تفسدني…
لكن يا صديقي وزوجي حاصرتني في الزاوية المغلقة، وأطلقت العنان للعنف الرمزي يفتك بي. والأبشع أنك سمحت لذلك الراوي الملعون القادم من بقايا قصور الأمويين والعباسيين، بأن ينكل بجسدي وروحي المقدسين. دون أن يرف لك جفن الحب والنبل والعظمة التي جاءت على لسانك، دون أن تتجذر في قلبك الطيب الكريم.
شعر الرجل ببعض الألم في منطقة مجهولة في أعماقه.  نظر إليها بحنان واعتذار صادق على أنه كان ضيق التفكير. وهش العاطفة والوجدان في النظر والتحليل لواقعة الموت، التي لا يمكن لأي واحد أن يفر منها أبدا. بدأ في المشي البطيء تجاه زوجته مبتسما وحزينا في الوقت نفسه. فهم بأنه بعيد عن التخلص من جلده الأبوي القديم المقرف. وأدرك أن عملية التغيير تبدأ من معركة الذات. وكما قال فيلسوف كبير: من لا ينتصر على نفسه لا يمكن أن ينتصر على أي شيء آخر.
وجدت الزوجة نفسها في الموقف الصعب الذي لم تستطع التغلب عليه. لم تعتذر على قسوتها في التعبير، كما لم تعترف يوما أنها يمكن أن تكون مخطئة. فهي على صواب وكلامها هو الصحيح. لكن عيونها تشي بالكثير من الكلام الجاف الذي امتنع عن الخروج لأسباب تجهلها، وليس تقديرا للجو المكهرب الخانق في غرفة الجلوس …

اترك ردّاً