إبراهيم اليوسف

تُعدّ مجموعة الشاعر السوري الكردي خضر سلفيج، “النزيل بمعماره في التيه”، رحلة عميقة في قلب الغربة، حيث يتسلّل الشاعر عبر مفردات بل صورشعرية مكثفة ليحكي لنا عن المنفى، الغربة، والذاكرة التي لا تود أن تُغادر. إذ تكشف هذه المجموعة عن بروفايل شاعر مهجور، يعيش بين الذكريات وآلام الغياب، وهو يُجسد في قصائده المأساة والوجع اللذين يعيشان في عينيه بشكل مستمر. يختار سلفيج في نصوصه أن يكون أكثر من مجرد شاعر يروي قصته؛ فهو يسعى، عبر قصائده، إلى نقل صورة مأساوية لكرديّ في الشتات، مأساة لم تنتهِ بعد.
في هذه المجموعة، نرى سلفيج يتنقل بين الإحساس بالهدم والتدمير الداخلي الذي يُلاحق المهاجرين، ليحكي لنا عن اندياح شتات لم يعد مرتبطًا بمكانٍ بعينه، بل هو حالة من اللامكان واللازمان التي يعيشها الكائن المنفي. يُطرح في قصائده العديد من التساؤلات حول الهوية في غياب الجغرافيا الأم، ففي قصيدته على سبيل المثال، التي يكتب فيها عن المنفى:
“في المنفى
يَعْثُرُ الغريبُ
على جسدٍ
كان قد تَفَجَّرَ منه!”
هنا، يصور الشاعر كأن المنفى هو محاولة للعثور على الذات الممزقة، جسد يفتقد التماسك لأن أساسه أصبح في طريق الانكسار. هو جسد مشتت، مبعثر بين الماضي والحاضر، بحثًا عن هويته، لكن الأمر لا يتوقف عند الألم فحسب، بل يتعداه، أبعد من ذلك، ليصور الحالة التي يمر بها الكائن المنفي في محاولاته المستمرة لإعادة صياغة نفسه في مكان ليس له.
يتناول سلفيج في هذه المجموعة علاقة الشاعر بالمكان: تل أفندي- تل حجر- الحسكة- صوفيا- لندن، تلك العلاقة التي يُرثى لها في كثير من الأحيان، خاصةً حين يتحوّل المكان في الشتات إلى شيء غريب، بل ومريب، لا يرتبط بالكلمات أو الذكريات، بل يصبح مجرد مساحة بيضاء، تمامًا كما يظهر في قصيدته التي يقول فيها:
“ما من موتٍ هناك،
لا الليل،
ولا قمصان الموتى
تخيّم على
نهار رحيلك.”
هنا، يشير سلفيج إلى أن الموت الذي يعيشه المنفى هو موت معنوي، لا جسدي. هو موت تتغير فيه المعالم، ويختفي فيه كل شيء يرتبط بالزمان والمكان. حيث لا اعتراف من لدنه بالليل ولا بالنهار، لأنه ببساطة، في الشتات، تصبح الحدود بين الحياة والموت مشوشة، فلا فرق بين الوجود والعدم. هذا يرمز إلى حالة الذبول التي يعيشها الكائن في المنافي البعيدة عن الوطن.
أما عن الأسلوب اللغوي الذي يعتمد عليه سلفيج في هذه المجموعة، فهو أسلوب شعري يستند إلى تجربة عميقة، مليء بالرمزية، يحاول فيها الشاعر أن يقدم للقارئ صورًا شعرية غير مباشرة، تُلامس المشاعر العميقة وتؤثر في الوجدان. فالشاعر لا يقف عند جدران الحدث الظاهر في قصائده، بل يفتح أمامنا أبواب الرؤى والتساؤل، لأن لغته الشعرية تتشكل من طبقات متعددة، تبدأ من تصوير مرارة الوجع الذي يعيشه شخصه الشاعري، ثم تتسع تدريجياً، لتغطي معاناة شعبه، وتطرح قضية ذويه في الشتات من خلال الصور المجازية والرمزية.
نصوص سلفيج لا تقتصر على العاطفة الفردية فحسب، بل تضج بالعواطف الجمعية التي يشترك فيها الكردي والمجتمع الكردي في الشتات. إذ تبرز هذه المجموعة كثيفة بالألم والاشتياق، لكنها تمثل أيضًا مقاومة الذاكرة، ومحاولة لفهم الذات في محيطٍ غريب. يقدّم لنا الشاعر من خلال هذه القصائد مكانًا لا يستطيع الشخص أن يستقر فيه. مكان مليء بالأصوات المتنافرة والمشاعر المتضاربة، إذ أن الغربة تضع الشخص في حالة دائمة من البحث عن ذاته، لا ليعود إلى الماضي، بل ليعيد بناء نفسه بشكل جديد.
من خلال قصائده، يسعى سلفيج إلى إزالة الأغلال التي يقيد بها الشاعر نفسه في شعره، فكل كلمة وكل صورة شعرية تأتي لتبني صورة مختلفة للمنفى. التناقض الذي يعيشه الشاعر بين الرغبة في العودة إلى الوطن وضرورة المضي قدمًا في الحياة يشكّل أبرز التوترات التي تغذي ديوان “النزيل بمعماره في التيه”. كل قصيدة تمثل حالة من الصراع الداخلي، بين رفض المنفى والقبول به، وبين الإيمان بالعودة إلى الجذور والتمسك بالحلم بالوطن.
تظهر في القصائد قوة الكتابة لدى سلفيج في إبراز المعاناة النفسية للأفراد الذين يعيشون في المنافي، هذه المعاناة التي تتمثل في الخوف من فقدان الهوية، والانعزال عن العالم المألوف. وعلى الرغم من العذابات التي يصورها، يقدم لنا الشاعر أيضًا إشارات من الأمل في إعادة بناء الذات، كما يظهر في بعض مقاطع القصائد:
“في التيه، نحن نعيد بناء أنفسنا.”
على هذا النحو، نجد أن هذه المجموعة الشعرية تعد شهادة على تجربة ذاتية جماعية، في آن، وليست مجرد استعادة جمالية لألم فردي، في لحظة توتره وصعوده. فهي تبرز جمالية الشعر الكردي الجديد في الشتات، مكتوباً بالعربية، وتسلط الضوء على محنة إنسان يبحث عن مكانه في العالم، غير قادر على التخلص من ذكرياته وآلامه، ولكنه ما يزال يتطلع إلى إعادة بناء هويته وكينونته، رغم الصعاب.
أجل. يمكننا القول إن “النزيل بمعماره في التيه” ليست مجرد مجموعة شعرية، بل هي تجسيد للألم الإنساني في الشتات، وأداة للشاعر لإيصال أصوات الذين عانوا من الاغتراب. هي رحلة استكشاف للشاعر في عالم مليء بالمتغيرات والضياع، حيث تصبح كل قصيدة بمثابة مرآة تعكس صراع الإنسان مع هويته في الشتات، وتقدم لنا صورةً مكثفة عن إنسانه الذي لا يزال يعيش في قسوة المنفى.
*مجموعة “النزيل بمعماره في التيه” للشاعر خضر سلفيج 125 صفحة من القطع المتوسط
لوحة الغلاف:
عبدالكريم مجدل بيك
تصميم الغلاف: منى فضالي
دار: لاماسو للنشر- السويد-2025







