فاطمة غندور

من منا لاتتداعى في استرجاعاته أو معاصرته، مشاهد من تطلق كلماتها، حين تهدهد رضيعها لبث الامان والطمأنينة، وقبلها تبعث موجات محبتها وحنانها، صوتها متنفسه وصلة وصله بها في صحوه ومنامه، قلقه ونفوره المبهم وتكون هي من يفقهه ويفك مغاليقه، تغني له بشعرية مرتجلة سلسة، شعرية تتدفق فيها الهمهمات في مواقع تختارها، وحكاية تنسجها مخيلتها: ناني ناني جاك النوم أمك قمره وبوك نجوم، غير أكبر بس ندير ولك عدة وفرس.
وفي تاريخ ممارساتها اليومية،حين تجلس لآلة الرحى ، تطحن القمح ليصير دقيقهُ على يدها خبز الحياة ،تغالبُ ثقل حجر تلك الآلة ، بشعرية تؤنسن فيها آلتها ، تخاطبها كأقرب ما تكون لها ،شكوى ولواعج ،كما فرح وانتظارات آملة ، تجالس صويحباتها فينسجن الاشعار الغنائية، في أيام الفرح تحمل خصوصيتها في توجيه رسائلها ،في أغاني الخطوبة ،الى أغاني ولوجها بيت الزوجية ووداعها بيت الأهل،،وفي الحزن ومصاب الاحبة تصير البكائيات والرثاء، ما تنفرد به، كما شعريتها لرضيعها تلك المفردات لايقاسمها الرجل فيها صنعا وقولا، بل نسيج وحدها، وبشعرية “التعديد /المُعددات” ما تصب فيه من خلاصة وعصارة العم، تستحضر تجاربها في الفقد .
تصوغ كلماتها وتدندن لحنها في السلم والحرب، ففي معارك الوطن ضد مستعمر دخيل، تكون القوى الناعمة في التحشيد النفسي المعنوي، صوتها يعلو بأن حيا على البطولة والاقدام، دفاعا عن حياض ونبذا لكل متهاون،وهي مؤرخة بنصها لحدث المعارك كما ملحمة فاطمة عثمان( خرابين ياوطن مافيك والي)، وعند الطوارق الشاعرة والعازفة على آلة أمزاد تتفوق في حضورها على الرجل الشاعر،وفي نماذج لأشعار غنائية لنساء ليبيا تحضر البوقالة، والبو طويل ، وغناوة العلم، وغيرها، ومنها ما ظلت تردد الى يومنا هذا، وتستحضر عند مواقف تشابه حدثا قيلت فيه تلك الشعرية المختزلة والمكثفة .
وسنتكشف عبر تلك النصوص التي جاءت مرتبطة بسياقاتها ،ومعطيات سياسية واقتصادية ومجتمعية،كحرمانها من التعليم وفك أميتها، في مجتمع محافظ يرى في صوتها عورة، وانطلاقها وكسر عزلتها جريمة ومخالفة لأعراف مألوفة مثبتة، لذلك ملفوظها الشعري على عفويته محمل بأنشغالاتها،أثقال الحياة، بكل مافيها من هجر وضيم يطالها، كما غياب اعتراف وعدالة تنصفها ببيت أهل أو بيت زوج، قبر لتطلعاتها وآمالها، ففي نص حواري يجمع بين أمرأتين تتقابلان عند آلة الرحى ،وتتشاركان تدوير رأسها ،تتناجيان الغربة وحنينها، إذ تنزل زوجة بغير عشيرتها، ثم غياب معيل البيت، فأي حمل ترزأ تحته وتتحمل مسؤوليتها في خضمه، وحيدة في مواجهة عيون تلتهمها في روحها وغدوها، ولا ظهر أو سند يحمل عنها إكراهات ملزمة بأن تحقق فيها مشروطية وسبق قبول ورضى مجتمعي عنها.
على ذلك شعرها الحاضر في دورة الحياة، مخزون تراثي منه ما جمع ودُون وخرج في إصدارات، وفيه ايضا ما قبر وطواه الاهمال والنسيان، ميراث تمتلئ به أدبيات الشعوب، تصدح فيه أصوات النسوة شاعرات المشافهة، مبتدأ قول أي شعر قبل تدوينه، ما يتوارثنه أو ما يؤلفنه بعفوية اللحظة فيجري على لسانهن معبر حال، ويكون أجابة لسؤال هل المرأة شاعرة ؟ حين ينبري البعض قبلها، ليجزم بانعدام الشعرية عند المرأة، وأنه فن وأدب لا حمل، ولا قبل لها به!







