الوطن في عيون الشاعر إدريس سالم

محمد محمود نعسان1

إنّ ما يشعر به الإنسان العادي هو عينُ ما يشعر به الشاعر، ولكن بدرجات متفاوتة وأعلى. يبقى الشاعر مرهف الإحساس والمشاعر تجاه أي حدثٍ أو مسألةٍ عارضةٍ للحياة والمجتمع، ومهمة الشاعر أن يفهم الحياة ومشاكلها ويدخلها في قالبه الأدبي، ويمررها عبر مخياله وأسلوبه، ثم يعرضها بصورتها النهائية على الناس.

إذن فالشاعرُ مادةٌ متاحة للجميع، وسهلةُ التناول لاستخراج واستنباط أي حدثٍ يعتور المجتمع. فعند دراستنا لعقل الشاعر وتصوراته نكون أمام خيارين:
إما أننا نكون أمام أفكار تمثل مجموعةً من الناس،
أو أننا نكون أمام أفكار يرفضها المجتمع ولا تمثل إلا صاحبها.

يولد الإنسان ويتربّى على بديهياتٍ تصبح جزءاً أساسياً غير قابل للانفصال عن نظرته الرئيسية والعامة للحياة، وقلّما يفكر في هذه البديهيات بطريقةٍ ديكارتية تشككية (وإلا لَمَا ظهر هذا المذهب بشكلٍ يدعو البعض إلى رفضه ومحاربته). ومن هذه البديهيات التي توقف عندها عددٌ من المفكرين والأدباء والفلاسفة والشعراء مفهومُ “الوطن”.

وتنوّعت تعريفاتهم لهذه اللفظة؛ ففي لسان العرب لابن منظور ورد في تعريف وطن: “فعل وَطَنَ، أي وَطَّنَ الشخص البلدَ واتخذهُ مسكناً يعيشُ ويُقيمُ فيه”. فحسب هذا التعريف، الوطن ليس مكاناً محدداً ولا بلداً بعينه أو مسقطَ رأسٍ فحسب، بل يعطي للفرد مرونةً للتعامل مع الوطن بشكلٍ أوسع وأشمل. وهذا ما لا يتفق مع مفهوم الوطن في عددٍ من اللغات الأجنبية؛ فمثلاً في اللغة الفرنسية تعني كلمة patrie “بلد الآباء”، وفي الألمانية تعني كلمة Vaterland أيضاً “بلد الآباء”.

وبالطبع تتوسع الاختلافات أكثر عند الإسلاميين الذين يعتبرون كلَّ الأرض وطناً، والقوميين الذين يبنون أوطانهم حسب قوميتهم، والإنسانيين الذين لا يؤمنون بالحدود؛ ويصبح الجمع بينهم من الصعوبة بمكان. فما هو الوطن إذن؟ أهو بلدٌ يشعر الإنسان فيه بالراحة والطمأنينة، وتتوفر فيه حياةٌ كريمة ورغيدة ويعمُّ فيه السلام والأمان، بغضّ النظر عن كونه مسقطَ رأسه أم لا؟ أم هو التراب الذي وُلد عليه الإنسان، رغم ما فيه من مساوئ ونزاعات ورجعية وتخلّف وعنصرية واستبداد ودمار؟

للإجابة على هذا السؤال، سنبحر في عالم شاعرٍ يملك هويةً وجنسيةً ووطناً مزدوجاً أو مبهماً، لنحاول أن نتعرف إلى مفهوم الوطن عنده من خلال تحليل ديوانه الأخير، الصادر حديثاً (2025) عن دار “نوس هاوس ”، والموسوم بـ “مراصد الروح”، والذي تناول فيه الشاعر إدريس سالم2 (من مدينة كوباني – سوريا) مفهوم الوطن وفق تجربته الخاصة.

في أول قصيدة يفتتح بها سالم ديوانه، والمعنونة بـ “دمٌ أعمى”، نجد أنه في ثاني بيتٍ يذكر اسم مدينته (كوباني):

وحيدٌ أنا
كعاشقةٍ جائعةٍ في أزقةِ كوباني

لدرجةٍ يشعر القارئ وكأن الوطن يضغط عليه ولا يترك له مجالاً للهروب بعيداً عنه أو الغوص في وجدانيته ومشاعره الإنسانية والعاطفية. وهو هنا يشبّه وحدته بحال وطنه الوحيد الذي يعاني مثله ويبحث عمّن يساعده ويقف إلى جانبه، فيشعر سالم بشيءٍ من التماهي بينهما وشراكة المصير والحال. وبعدها ينتقل إلى ذكر أماكن ومدن وعواصم أخرى، وكأن الجغرافيا تقيّده من كل الجهات:

في عفرين، كركوك، بيروت، دمشق، بغداد.

وفي قصيدته “ليس للكورديِّ… إلا البكاء”، المستوحى عنوانها من قصيدة محمود درويش “ليس للكوردي إلا الريح”، يقول:

في وطني
يستلُّ المارقون أسيافَ البتر
يقطعون أطراف الأمس
وشرايين الضوء

إذن، وطنه وطنٌ ممزقٌ ومحكومٌ من فئةٍ مجرمة لا تحترم الإنسان ولا قيمة الوطن والمواطن، وينتشر فيه الاستبداد. ورغم ذلك يبقى هذا الوطن الممزق في وجدانه وضميره، يحمله معه رغم كل مساوئه، ويكتب عنه ومن أجله.

لكنه يقابل هذه الصورة القاتمة والمؤلمة بصورةٍ ناصعةٍ وجميلة عن الوطن، عندما يقول في قصيدة “قضيةٌ مخذولةٌ”:

هو وطنٌ أخضرٌ يلبس خفتاناً أحمرَ
هو سوسنٌ. هو مسكٌ. عودٌ. وعنبرٌ…

ما الذي يمكن أن يفهمه القارئ من هذه الصورة؟ يريد الشاعر أن يقول إنّ وطنه هو أرضه ومسقط رأسه، وأنه يحبه مهما كان موحشاً ومقفراً، ويرى الجمال فيه كما يرى الخراب، ويبقى وفياً لهذا الجمال، يحمله بين ضلوعه. فرغم كل الخراب لا يزال يحب وطنه، ولا يستطيع أن يستعيض عنه، مهما عاش في بلدٍ آخر كلاجئ أو مغترب، ومهما يكن بلدُ اللجوء عصرياً وحضارياً ومتطوراً.

مما يجعلنا نستنبط أنّ الوطن عند سالم أقرب إلى المفهوم الغربي لا العربي (كما في لسان العرب)؛ المفهوم الذي يتمسك ببلد الآباء، رغم واقعية الواقع ومرارته. ويظهر ذلك جلياً في قصيدته “مذابح المدن” عندما يقول:

تحت رماد المنفى
المنطقي والأعمى
أدرِّب مذابحي
على النسيان

فهو يقول لنا – وكأنه يعتذر عن تعلّقه بوطنه الرازح تحت وطأة الحرب – إنه لا يستطيع أن ينسى هذه البلاد رغم كل ما سببته له من مواجع ومذابح، ورغم رائحة الدخان ولهيب الحرب والقتل والطغيان، ورغم منطقية النسيان، فإنه لم يستطع إلى هذا البلد نسياناً، لأنه بلد آبائه ومسقط رأسه، حين يعلنه بشكلٍ غير موارب:

أنا جديلةُ كوباني

هنا يكشف عن مفهومه واعتقاده في الوطن بأنه مسقطُ رأسه، وأنه جزءٌ من كينونة هذه المدينة التي لم يستطع التخلي عنها أو حتى نسيانها، رغم إغراء بلد اللجوء وتغنّجه لمحاولة استهواء قلبه وعقله وضميره. إلا أنه فضّل بلاده، رغم أنها “مقابر جماعيةٌ مبعثرة هنا وهناك”، ورغم أن وطنه “لا يزال ضائعاً حائراً”، ورغم أن بلاده فيها “مكبسٌ لتغليف الأشلاء” وأن المعتقل فيها ينسى اسمه، ورغم أن وطنه “على كف الريح… وصار عفريتاً”، إلا أنه لم يفضّل غيره عليه مهما كان فاتناً وباهراً.

يريد سالم أن يقول لنا: هذه أوطانكم التي اختارها الله لكم؛ اقبلوا بها، وارضوا عنها، وأحبوها واعملوا من أجلها إذا لم يعجبكم شيءٌ فيها. فهي قدركم الذي لم تختاروه، مثلما لم تختاروا آباءكم وأمهاتكم؛ فالإنسان لا يتخلى عن أمه أو أبيه إذا كانا سيئَين.

  1. محمد محمود نعسان: كاتب من كوباني صدر له رواية ” وحي السراب” عن دار اسكرايب، ورواية ” جباية الحرب ” عن دار مختلف. ↩︎
  2. إدريس سالم شاعر كوردي سوري من مدينة كوباني التابعة لمحافظة حلب، يقيم في مدينة مرسين التركية. صدر له ديوان “جحيمٌ حي” وديوان “مراصد الروح” عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة.
    ↩︎

اترك ردّاً