نارين عمر / ألمانيا

لا شكّ أنّ إشكالية الأدب والكتابة تظهر لدى مختلف الشّعوب والأقوام، وخاصة تلك المعروفة بتعدّدها القومي والاجتماعي، ومنها الأدب الكردي الذي تعرّض وما يزال إلى معوّقات وعراقيل متباينة على مرّ العصور وتحديداً مع النّصف الأول من القرن العشرين المعروف بعصر النّهضة على مختلف الاتجاهات والأصعدة ومنها النّهضة الأدبية والثّقافية.
المعوّق الأساسي بالنّسبة إلى الأدب تعدّ اللغة نظراً إلى وضعنا الكرديّ المفروض علينا منذ أكثر من مئة عام، وحرماننا من تعلّم لغتنا الكردية بشكل أكاديمي ومهني في مدارس وجامعات وهيئات خاصة بنا، واضطرارنا إلى تعلّم لغات الشّعوب الأخرى وممارستها في المدارس والجامعات وأماكن العمل، ما أدى إلى اضطرار عدد كبير من أدبائنا وكتّابنا إلى الكتابة بلغات أخرى غير لغتنا، والكثير منهم قد أبدعوا فيها، وقدّموا خدمات قيّمة وجليلة لمكتبات تلك الشّعوب.
لكن هذا الحرمان وهذه الممانعة المقصودة لم تؤثّر في أشخاص آخرين من شعبنا الذين بذلوا جهوداً جبّارة لتعلّم لغتنا على الرّغم من الظّروف القاسية والأجواء القاتمة التي مرّوا بها وبمجهود فردي وذاتي أحياناً، معتمدين على المصادر اللغوية المتوفرة لديهم، بل ساهم بعضهم في إيجاد قواعد خاصة للغة الكردية
وإن لم تفلح جهودهم إلى الوقت الحاضر في إيجاد قواعد موحّدة للغة الكردية، تشمل لهجات لغتنا العديدة والمتباينة، ولكنّ هذه الجهود لم تعمّم على معظم فئات الشّعب الذين ولجوا عالم الأدب والكتابة من خلال اللغات الأخرى العربية أو الفارسية أو التّركية وغيرها من اللغات الأخرى، وبها حاولوا التّعبير عن واقعنا المعاش في كلّ زمن ووقت من مختلف النوّاحي والاتجاهات، وسعوا إلى تعريف العالم بنا كشعب وأمّة، والتّعبير عن مشاعرهم وأخيلتهم وأفكارهم حول مختلف أمور الحياة وقضاياها.
بالعودة إلى وجوب تعلّم اللغة الأم والظّروف والأسباب التي حالت دون تمكّننا من تعلّمها، نستطيع أن نؤكّد على أنّ الأمر كان في غاية الصّعوبة على أعداد كبيرة منّا قبل أعوام مضت، وكانت لهم مبّرراتهم وحججهم المنطقيّة، ولكن ومنذ ما يقارب العشرين عاماً الماضية حصلنا على منافذ عدّة لتعلّم لغتنا، واهتدينا إلى سبل وطرائق عديدة تمكّننا من فعل ذلك، تساعدنا بكلّ يسر وأريحيّة، طبعاً إذا كانت لدى أيّ شخص منّا الرّغبة في ذلك وروح الإرادة على تحقيق ما نسعى إليه.
هنا لا بدّ أن أشير إلى نقطة هامة لكي لا نقسو في أحكامنا وهي أنّ بعض الأشخاص الذين تمكّنوا من تعلّم اللغة الأمّ والكتابة بها قد لاقوا صعوبات كبيرة وعوائق لا يستهان بها، لكنّ إصرارهم وشغفهم أوصلهم إلى ما يريدون، أمّا بعضهم الآخر فقد ساعدتهم ظروفهم العائلية والاجتماعية على شغفهم بتعلّم اللغة والكتابة بها.
ليتني أتقن كلّ لغات العالم أو أكثرها لأكتب بها، ومن خلالها أتمكّن من التّعريف بنا كشعب متحضّر، مسالم توّاق إلى العيش بسلام وأمان إلى جانب الشّعوب الأخرى، وإيصال رسالتنا الأدبية والثّقافية إلى الآخرين.
من هنا أودّ أن أؤكّد على أنّني شخصياّ كنت من الأشخاص المحظوظين الذين توفرت لديهم ظروف وسبل ذلك. فقد كان أخي عادل شاعراً ومتمكّناً من اللغة وملّماً بها، وكذلك أختي الكبيرة پريخان كانت تكتب وتقرأ بالكردية يعود إليها الفضل الأكبر في تعلّمي لقواعد الكردية بالإضافة إلى أشخاص آخرين من عائلة أبي وأمّي كانوا مجيدين للكردية ومهتمين بالأدب والثّقافة، مع امتلاكنا لمكتبة منزلية كانت تحتوي على مختلف الكتب والمجلّدات والجرائد والمجلات الكردية والعربية والعالمية المترجمة إلى هاتين اللغتين، استفدت منها كثيراّ، وعندما ولجت عالم الأدب والكتابة بدأت الكتابة باللغتين معاً وما أزال.
أؤكّد على أنّ مثل هذه الظّروف لم تكن متوفرة لدى الكثيرين ما جعلهم بعيدين عن تحقيق رغبتهم في الكتابة بلغتهم الأم التي يتقنون لهجاتها فقط ويتكلّمون بها منذ عهود طويلة. وهنا لا بدّ أن نشير إلى وفاء شعبنا للغة الأم وتعلّقهم وشغفهم اللامحدود بها والإصرار على التّكلم بها كلّ بحسب اللهجة التي تعلّمها، ما يؤكّد كلّ التّأكيد على مكانة لغتنا لدى عموم شعبنا والتي يعتبرونها بمثابة الهوية والكينونة.
إذاً بعد الأحداث الأخيرة التي عشناها وما نزال، والثّورة التّكنولوجية التي حوّلت العالم إلى أسرة كبيرة واحدة والوسائل والمصادر الكثيرة المتوفرة لدى كلّ منّا بات لزاماً علينا الالتفات إلى تعلّم لغتنا والكتابة بها كلّ بحسب ظروفه والأوقات المتاحة له والعوم في أراضيها وسماوتها وما تحتضنان من مفردات وكلمات نابضة بالعواطف المكللة بالمشاعر والأحاسيس والأفكار الزّاهرة بالواقع والخيال معاً بالإضافة إلى الكتابة باللغات الأخرى. كما بات لزاماً علينا السّعي الجاد إلى وضع قواعد موّحدة تشمل مختلف لهجاتنا بغية الوصول إلى لغة كردية فصحى نتفاهم من خلالها بين بعضنا البعض بيسر وسهولة، وتكون اللبنة الأساسية للأدب والثّقافة الكرديين أيضاً، وأودّ أن تكون كلماتي هذه بمثابة دعوة إلى المختصين والمهتمين باللغة.
توكيداً على رغبتي في ذلك فقد تمكّنت وبمساعدة بعض الأشخاص الخيّرين والرّائعين من ترجمة بعض أشعاري إلى اللغتين الألمانية والانكليزية، كما تٌرجمت بعض قصائدي وقصصي إلى الفرنسية والاسبانية أيضاً، وبدأت الكتابة مباشرة باللغة الألمانية منذ فترة، وآمل أن نتمكّن من ترجمة آمالنا وطموحاتنا إلى الآخرين بلغتنا ولغاتهم معاً.
قبل أن أنهي مقالتي أودّ أن أنوّه إلى مقولة أقولها على الدوام، وأكدت عليها في الحوارات والمقابلات التي أجريت معي سابقاً:
ليتني أتقن كلّ لغات العالم أو أكثرها لأكتب بها، ومن خلالها أتمكّن من التّعريف بنا كشعب متحضّر، مسالم توّاق إلى العيش بسلام وأمان إلى جانب الشّعوب الأخرى، وإيصال رسالتنا الأدبية والثّقافية إلى الآخرين.







