ترانيم في ذاكرة كلكامش للشاعر سعيد لحدو

قيامة الشعر وطين الأسطورة

إبراهيم اليوسف

ليست “ترانيم في ذاكرة كلكامش” للصديق سعيد لحدو مجرّد مجموعة شعرية، فحسب، بل تكاد تكون- بحق- سمفونية طويلة تتوزّع على اثنتين وعشرين قصيدة، تمتد من تموّجات كلكامش وتوهّجات تموز إلى الحقول الظامئة، والأناشيد التي تغنيها النوافذ لظلّها الأخير. هذه العوالم الموزّعة بين الحب، التيه، الغربة، الطفولة، التراب، والنداء الأخير، لا تنطلق من موضوع خارجي بقدر ما تتفجّر من الداخل. من الذات التي ترى في الطين لوحاً وفي الذكرى معبداً وفي القصيدة خلاصاً جزئياً من المحو.

من هنا تأتي نبرة هذه المجموعة، لا بوصفها نداء شاعر، بل صدى ذاكرة طويلة تنتمي إلى طين آشور، وإلى جراح” طور عبدين”، وإلى جبهات الروح التي قاومت في الخفاء. ولعلّ هذا ما يجعل قراءتها مضاعفة، لأنها لا تقدّم القصيدة بوصفها منجاة، بل بوصفها طريقاً إلى الغياب النبيل.

المجموعة مهداة إلى” كلكامش “الهاجع في أعماقنا لوحاً من طين”، هكذا- كما جاء في مقدمة المجموعة- وإلى دماءٍ محترقةٍ في وِهاد طور عبدين وذُرى جبال آشور، وإلى الصورة المتجددة للحب في كل محطات السفر”. ليست هذه الإهداءات عابرة، بل تشكّل عظام الفقرات التي يستند إليها الهيكل الشعري بأسره، حيث تتراكب العراقة مع الجرح، والبراءة مع النزف.

أما الشاعر سعيد لحدو، فهو صديق أعرفه عن قرب، منذ أيام الوطن، وقد تعددت لقاءاتنا في محطات عدة جمعتنا، في الأمكنة وفي الموقف تجاه الاستبداد. إنه ابن مدينة قامشلي التي ما زالت ترن في ذاكرته كلما مرّ النسيم على وجنات القصيدة. يقيم في هولندا منذ ما يقارب ثلاثين سنة، لكنه لم يترك روحه هناك، بل حافظ عليها في نصوصه، وحوّل الغربة إلى معجم داخلي، وإلى وطن مكتوب بالحبر والحنين.

مجموعة” ترانيم في ذاكرة كلكامش صدرت عن دار TASQ عام 2024، في طباعة أنيقة بلغ عدد صفحاتها 116 صفحة من القطع الوسط، وتزيّنت بغلاف للفنان موسى ملكي. صديقنا المشترك، ابن قامشلي هو الآخر، ليتكامل الإيقاع بين اللوحة والنص، كما ذاكرة المكان، وملامح الجرح، وشبكة خيوط الحنين.

ثمة عناوين كثيرة ضمتها نصوص المجموعة منها: “لم يكن قد جاء بعد”، “يجيء الحلمُ والذكرى”، “أخبئكِ الآن أين؟”، “كتبتكَ في دفتر الأمسيات”، “تمَرَّغتُ في وحل خلقي”… وغيرها من العناوين التي تتماهى مع المضمون كأصوات منفردة في كورال شعريّ واحد.

ترتكز هذه الترانيم- من وجهة نظر هذه القراءة- على عوالم كبرى متقاطعة، أولها العالم الملحمي بوصفه ذاكرة بشرية جامعة، تحضر فيه كلكامش وتموز، وتنعكس في طين أوروك وأساطير السواقي ونبوءات الأرض. وثانيها العالم الوجداني الذي ينحت من الحب وجهاً للمقاومة، ومن العشق صيغة لبقاء الإنسان في وجه المحو. وثالثها عالم الخراب، النزوح، وتحوّلات الأرض التي كانت حاضنة وانقلبت إلى طاردة.

منذ أول الصفحات، ينكشف حضور كثيف لمجاز الشمس والدم والطين، كأن هذه الثلاثية تشكل المعجم العميق للديوان. في الترنيمة الأولى، نقرأ: “حين جاء السيلُ طاغٍ في دروب القرية الظمأى لوعدٍ من ضياء / كمنت فيه حروف من دماء” (ص2)، وهو مشهد لا يحكي قصة قروية بقدر ما يضغط الزمن برمّته في لحظة كونية واحدة.

النصوص جميعها مكتوبة على نظام  التفعيلة حرة: فاعلن وجوازاتها أو فعولن و مستفعلن وغيرهما وجوازات كل منها، إذ لا تتقيّد ببحر واحدكما إنها تنفتح إضافة إلى إيقاعها الخارجي على تنويعات إيقاعية داخلية، وكأن القصيدة تبحث عن تنفسها الذاتي، من دون فرض. وهذا الإيقاع لا ينبع من الوزن التقليدي- فحسب- بل من حركة الصور وتكرار النغمة الشعورية. وحين نقرأ الديوان كاملاً، نكاد نحس أن المجموعة كلها نص واحد، قصيدة واحدة موزعة على أجزاء، أو على محطات من نداء داخلي واحد.

اللغة هنا لا تعيش على فتات المجاز، بل تشيّد صورها كما تُشيّد المعابد. ليست تفعيلة القصيدة أو انزياح الجملة ما يمنحها خصوصيتها، بل انخراط الجملة في كون شعري متكامل، حيث تسير المفردات كما لو أنها أبناء نهر واحد، تخرج من الذاكرة ولا تعود. في الترنيمة الثانية، يكتب: “أنا الباقي… لأشهد أن إنساناً / تنامى الله في قلبه” (ص10)، عبارة لا تُحكى، بل تُؤمَن، لا تُفسَّر بل تُحسّ.

وحين يسائل الشاعر لحدو ثلاثية الحب والحق والمصير، وهو يفعل ذلك بعين ترى في الأحلام نبوءات، وفي الفقد ذاكرة، وفي الأنثى صوت الأرض: “أخبّئكِ الآن أين؟ / وصوت النذير يهرول في الخافقين” ص32″. هذا الخوف ليس ظرفياً، بل تأسيسي، لا يخصّ عاشقاً منفرداً بل ذاتاً تكتب عن أمة طُردت من دفاتر الحياة.

الصور الشعرية هنا ترتكز إلى خيال مروّض بالتاريخ والجرح معاً. ليست غريبة عن القارئ، لكنها ليست مكرورة، بل تتكئ على مفردات بسيطة مشحونة بطاقة روحية. مفردات كالدم، الطين، المطر، الحقل، الزهر، وكلها مكرّسة لبناء عالم شعري فيه شعور دائم بالألم، بالحزن، بالدم، كما لو أن الشاعر يكتب بجرح مفتوح لا يندمل.

ثمة هيمنة واضحة للفكرة المسبقة، لا بمعنى التنظير، بل في كون كل قصيدة تنبع من مشهد روحي مكتمل. النص لا يُكتب بحثاً عن النهاية، بل يخرج من رحم فكرة كبرى تسبق الكتابة. تسبق الحالة الشعورية. تبوصلها، كرؤية أيقونية، لا مناص منها، في أبعادها: الماضي- الحضر- المستقبل. وهذه السيطرة ليست قيداً بل تمنح القصائد تماسُكاً داخلياً، وتشير إلى أن الشاعر لا يرتجل، بل يرتل، كراهب في دير، أو ناسك في صومعة، أو عاشق أمام خيال أنثى على بعد قبلة أو حلم.

كما إن الإيقاع الداخلي في هذه القصائد لا يخضع لمقياس خارجي، بل ينبثق من حاجة النص للترنيم. كل ترنيمة تقيم طقسها، كما في هذا المشهد من الترنيمة الرابعة: “أغطّيكَ يا موطن القهر بالكلمات الصموتة / وأسحب هذا الفراش اللعين / فقد سوَّس العظم هذا الرياء المزركش” ص25″، الإيقاع هنا ينبثق من التوازي، من التصعيد، من التكرار الذي لا يستجدي الصوت بل يولّده.

ولعلّ ما يمنح هذا الديوان تمايزه هو هذا التداخل بين صوت التاريخ وصوت القلب، حيث لا فرق بين فأس الواقع وسنابل الذاكرة. وقد جاء في الترنيمة التاسعة: “أمرُّ… ولا أحتفي بالعصافير / تروي حكايا الربيع / أمرُّ… ولا أنثني للمزامير / تنساب آهات راعٍ / ترامت به الروح خلف شتات القطيع” (ص46). لا نقرأ هنا نصاً رعوياً، بل لحظة سقوط كونية، إذ تصير الأرض شبيهة بالمنفى، والراعي صورة لمَنْ ضلّ ولم يجد خرافه.

الصور في هذا الديوان لا تأتي كزينة بل كضرورة، وقدرة الشاعر على توليد المجاز من خاصرة الجرح لا من خزائن اللغة، تجلّت في مشاهد تتجاوز الوصف إلى إعادة تشكيل الألم كما لو كان حروفاً من طين، تُرتَّل ولا تُقرأ.

وإذا كان الشعر في هذه المجموعة لا يقف عند حدود الشكل، فإنَّ مضمونه هو الذي يسوق لغته، ويمنحها هذا التماسك العاطفي والمعرفي في آن.  ومن هنا، فلا غرابة إذن أن تبدو “ترانيم في ذاكرة كلكامش” كأنها مخطوطة نُقشت لا بالحبر بل بوهج  ودم القلب، وبلغة ترتدي بساطتها لتخفي تعقيد الحزن وعمق النداء. هكذا تتحوّل الترانيم إلى شرفة يطلّ منها الإنسان على وجعه، فلا يرى فيه ضعفاً بل دلالة، ولا يجد فيه نهاية بل بداية دائمة للاشتباك مع الزمن، ومع الذاكرة، ومع الوجود.

ولعلّ أهم ما يلفت النظر في هذه المجموعة أنها لا تترك القارئ عند عتبة الألم، بل تأخذه إلى حيث يتماهى الشعر بالحياة، ويتحوّل النص إلى كيان نابض لا يمكن التفريق فيه بين الدم والحبر. حيث هكذا تصبح “ترانيم في ذاكرة كلكامش” قصيدة تتوزع بين عالمين: أرضي وروحاني، بين أنين الطفولة، وحنين الوطن، وأصداء المدى الذي لا ينتهي.

اترك ردّاً