إبراهيم محمود

” إلى الشاعرة : مزكين حسكو، التي رحلت في الأمس” 1-10/ 2025 “، واستقرت روحاً في الغد “
1
ماالذي يُبقي المرأة في الواجهة، لحظة التذكير بالدمع، ومرجعية البكاء؟بناء على أي مكاشفة تاريخية وهي في إهابها الثقافي، نسّب الدمع إلى المرأة، بقدْر ما جرى ربط المرأة بالدمع التعبيرَ الأكثر توصيفاً لها؟ هل لأن لديها فائضاً دمعياً حمّلت هذه الميزة، وبخاصيتها الطبيعية، وأن الرجل يعرَف بشح الدمع لديه عند التقابل بينهما؟ أم لأن صلة الوصل أو الفصل أعلاه لا تجد أي مبرر تاريخي، ومصداقية مسنَدة طبيعة، والدمع براء من كل تنسيب نوعي كهذا. ثمةو عينان تدمعان لأن قهراً يعرّي المستور أو المغيَّب اجتماعيا، كما لو أن انسكاب الدمع إيقاف العين عن الرؤية، ثمة اللغة السائلة من لسان ناظرة وتسمية لحرمان من الحق في الكلام . كيف يمكن للدمع هذا أن يكون تأريخاً لتأريخ يجرد الدمع من معناه، وتقويله بما ليس له به صلة؟
2
أن تكون العين العضو: عضو الرؤية- ربما -الأكثر حساسية وأهمية بالنسبة للإنسان، حيث جرى ويجري تصريفها في أدوار ومواقع ذات صلة بما هو اجتماعي وسياسي وثقافي ونفسي…إلخ، لنكون إزاء لائحة كبرى من الرموز والدلالات التي تتمحور حولها، لا عجب أن يكون المنسوب إليها، ومن خلالها، مكتسباً قيمة دلالية واعتباراً في المتصرف به على مستوى التعاطي مع العين: الدمع.
مفارقة كبرى، ولعلها كمفهوم مركَّبة، في مداخلها ومخارجها، ولها تاريخ طويل يخص هذا التوليف الحيوي وتقويمه خارج نطاق بنية الجسد بالذات، وهي ترينا علاقة ممركزة في الدمع الذي يتكلم المرأة ويعرّف به، كما لو أن الدمع هو الموصف، والعين صفته، قلباً للمعطى البيولوجي فيها؟!
أيْ حيث يصبح الدمع إشعاراً بحقيقة لا وجود لها، حقيقة تضاف إلى سواها تحويراً، إلا في متخيل خارج ٍ، والدفع به، ليكون مدمجاً بما هو داخلي، والداخل مغلوب على أمره بدوره، حيث التصنيف القيمي يتدخل هنا مفصحاً عما هو ساري المفعول بوطأته المقحمة والمعززة في شبكة العلاقات بين كل من الرجل والمرأة.
نتذكر هنا ما قيل في الذي يكون ( لولا الحياء لهاجه استعبار : أي ذرف الدموع “، و ” عصي الدمع ، شيمته الصبر “، وما في هذا الفصل من وصْل محْكَم، يغيّب ما جرى التعويل عليه، وعلى حساب المرأة. لكأن هناك عيناً وعيناً خلافها في عضويتها!
يمكن إيجاد استثناءات في هذا السياق، ولكنها لا تخفي داء التصنيف القطعي وفجيعة المتداول، كما في الحال مع ” قارئة فنجان ” شاعر شاهد كبير على الذكورة الرماحة، في وصف المأهول بحب امرأة المحال:
وتفيض دموعك أنهارا
لعل في هذا التوقيت ما يخل بمفهوم الزمن، الزمن المحسوس طبعاً، وطبيعته المكانية المحسوسة كذلك، حيث العاشق المدنف مصاب بالعجز، جرّاء عشق محوَّل إلى غياب، عشق جرى نسجه تخيلياً، تكون المرأة حيث اللامكان المعلوم، والعاشق الساعي لاهث بحثاً لا يخفي يأساً، ليكون دمعه السيال شاهداً على عجزه المذكور، وصعوبة، أو ربما استحالة العثور على من يحب أو بلوغها،وقد أشكل على عينيه الطريق الصائب !!
3
كيف أجيزَ للعين، وهي عضو الرؤية بجلاء، أن تكلَّف بمهمة مستقدمة من الخارج، جهة المرأة كثيراً، وهي أن تكون مميَّزة بالدمع. وما في ذلك من قصور المسمى في العضو الاسم: العين، لأنها محكومة في بنيتها بالآخر، ممثَّلة به، إذ يكون عينها التي بها ترى. لتنضم العين إلى مجموعة مكونات الجسد الأنثوي، جسد المرأة، وتحملها بسلسلة ” عورات ” وللعين نصيبها الأوفى في طمسهاً، كونَها ” عورة ” على أكثر من صعيد. وتؤطَّر في المحيط الاجتماعي والثقافي الذي يعزز فيها العالم مختزَلاً، أي من خلال : الدمع الشاهد القسري على ضعفها، شاهدها وشهيدها في آن، منها وإليها. لتنسكن إلى نفسها، وكما يجري توجيهها.
لقد جرى سلخ الرؤية عن مهامها في معرفة العالم المحيط، وأجيز للدمع أن يكون المعبّر عن عين لا ضرورة للنظر فيها وكلّف بمهمة لا نهاية لها، حيث لا تكون إلا في دائرة ضيقة، لتكون عمياء وهي ليست كذلك: إنه عمى مفروض، عمى ، يجب عليها الالتزام بما هو مغيّب لحقيقتها البصرية .
4
تبكي المرأة، لأنها الأكثر قرباً لذاتها، لأن دمعها لا يترجم ما هو خارجها، بقدر ما يكون تأبيداً للحظة انكسار، لصدمة مباغتة، لصدع نفسي، لواقعة مؤلمة، تأريخاً لها في روحها. ليس الدمع الخاص بالمرأة انغماراً بمجرد قهر عابر، أو قهر يخصها دون وحدها. يمكن لهذا الدمع، في نوعه، أن يمضي بمتعقب أثره إلى الآخرين، إلى عالم تتنفسه، أكثر قدرة على الشعور بمتغيراته، ليكون النظر في دمعها قراءة لمسطور لا يحسن تبيّن محتواه، إلا من أوتي نظرة أبعد من حدود، مجرد البكاء. إنه إبلاغ عن تصدع روحي، لو أمكن المعني به إدراك دورته الحياتية، وما يجعله ظاهراً، وهو ” نبْت ” باطني، لكان للحياة المعاشة معنى مغاير !
5
يسهل هنا النظر في شأن” الندابات ” في الأحزان، وهن يرجعن بنا إلى طقوس وشعائر موغلى في القِدَم، مع بروز مكانة المرأة: الأم الكبرى، وبوصفها تمثيلاً طبيعياً للخصوبة في جفافها وخصوبتها، وتعرضها لتغيرات تناظر الطبيعة، كما لو أن دمعها الدال على الحياة يستدعي السائل المائي، علامة حياة، تناظراً مع دمها كذلك، وجانب الاحتفاء بها، ليكون للدمع شأن مغاير هذه المرة، وليس كما أخرِج من سياقه المؤسطر، أو المنوّه إلى البعد القدسي نفسه للمرأة في يوم غابر.
تصبح الندابات، حيث حركات الأيدي الضاربات على الصدور” إذ تكون واجهة حياتية، مع تسمية الثديين ” بغياب رجل يموت، فيؤجَّرن لهذا الغرض، كما لو أنهن يجددن الاعتراف بالمجاز الذكوري، صحبة العين العائدة إليه. الدمع هنا يحجب الرؤية، ويؤكد حلول الظلمة، أو توقف الحياة جرّاء رحيل من يندبنه، ليكون المفكّر فيه هو الدمع في المقدمة، والعين ملحقة به .
6
من بين المفارقات الكبرى في هذا الجانب، ما يخص ظاهرة عربية قديمة في الشعر، وهي ” البكاء على الأطلال “، كما الحال لدى شعراء المعلقات، وهم في أوج ذكورتهم، ويحتكرون هذه النوعية المعتبَرة من الشعر المحفى به، وليس من امرأة بينهم.
حين يجري ربطهم في ميزة ظاهرة في مستهل القصيدة الطللية، حيث ديار المحبوب وقد نالها الخراب بعد هجرانها، كما لو أن هؤلاء نسوا ما هم عليه باعتبارهم ذكوراً، وأوفياء لذكورة معممة في الثقافة القائمة، لتكون هذه الميزة، وهي مؤنثة، ميزة استعبار، أو بكاء لهذا الشعر الطللي أو غيره، وقد تراءى في إهاب امرأة، انعدمت الرؤية لديه، وانكفأ على داخله، ليكون الدمع مؤاسياً له، إنما ليصبح شاهد عيان على حالة اللامعنى في حياة تلاشت. أي ازدواجية في التجنيس في وضعية شعرية مهجنة بمكوناتها ، وهي صارخة بلاسويتها ؟
7
أن يُنظَر إلى الدمع من منظور الثقافة المخلة بعموم الجسد، يضعنا في مواجهة تاريخ، لا أثقل منه في أهواله، حيث يجري ربطه بتلك العين، عين المتنفذ، عين السيد، عين الزعيم الأوحد، عين الأب الصارم، عين الفقيه المأخوذ بذكورته عين الخائض للحروب، عين يجري تدريبها على وجوب أن تبقى يقظة، أن ترى ما حولها، ولا يضعفها ظهور دمعة، ولو دمعة واحدة، لا تسفك دمعة واحدة، كما هو سفك الدم، إظهار لضعف، وتجاوباً مع ” زعم ” كبرياء الرجل، ولتبقى الدمع رؤية لها وهي تطفر من عين المرأة، أو تحول دون رؤية عالمها، حتى نفسها، وهي في قوامها الحي، تصعيد بمأساة العين في وحدتها، وأي داء مفعَّل فيها، ويتم إنتاجه باستمرار.
كان شاعر في مقام أمل دنقل مدركاً لهذه المأساة الدالة على مجتمع كامل مضعضع في داخله، ضحية ذكورة ماضية في غيها، أمل دنقل وهو يوجز هذا المصاب الجلل مجتمعياً، ولا يزال جارياً بأهواله في حساب الزمن الممتد إلى الآتي، على وقع المرئي راهناً، وهو في رائعته ” البكاء بين زرقاء اليمامة “، كما لو أنه وضع ” زرقاء اليمامة ” في الواجهة، وهي لا ترى شيئاً، لأن ما كان يُرى منسوب إلى الرجل، إلى عينيه، وطفح الذكورة ، وكأن هناك محاكمة لعين ترى، ولا ترى ما ينبغي رؤيته خراباً وموتاً وذلاً، ولتكون العمياء تعبيراً أوفى لمثل هذه المفارقات وتعرية لمن يدّعون الرؤية، وهم عميٌ:. ليكون بيتاه:
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ … عمياءْ !
تمييزاً لبراءتها مما يجري، ورفعاً لمكانتها، وهذا الذي يبكي هو استثناء الرجال الوحيد، وحيد مثلها، إزاءها، ليكون نشيجه، وهو الدال على أنه يبكي إمضاءة على خزي السكونين بـ” خراب دورتهم الدموية “، وبكاؤه فيه ما يُرى أكثر مما يراه المتباهون مجتمعياً.
https://alantologia.com/blogs/87907/







